بين فيشمان و دانا سترول
عندما يقف الدبلوماسي الأمريكي الأرفع شأناً على المسرح العالمي، كما فعل وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو الأسبوع الماضي في مصر، فأقل ما يمكن توقعه منه هو أن يتحدث بمصداقية الولايات المتحدة وسلطتها.
ولكن للأسف، لا تصمد قائمة بومبيو حول إنجازات إدارة ترامب أمام الحقائق على أرض الواقع. بالإضافة إلى ذلك، أضاع وزير الخارجية الأمريكي فرصةً للتعبير عن الكيفية التي يمكن بموجبها أن تكون الولايات المتحدة “قوة خير في الشرق الأوسط”، كما جاء في عنوان الخطاب، مع الحفاظ على مقاربة “أمريكا أولاً” الخاصة بترامب.
بعبارة أخرى، كيف يمكن لأمريكا أن تكون قوة خير في المنطقة وفي الوقت نفسه تخفض التمويل عن البرامج الدبلوماسية والعسكرية وبرامج المساعدات الأساسية، وتقدّم شيكاً مفتوحاً لحكومات ترتكب انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان، وتفرض حظراً على السفر وتضع عراقيل بيروقراطية لمنع أفراد [معيّنين] من دخول الولايات المتحدة؟
وبدءاً من تنظيم «الدولة الإسلامية»، كان الإعلان المفاجئ للرئيس ترامب في كانون الأول/ديسمبر بأن الولايات المتحدة ستسحب قواتها من سوريا يقوم على الادعاء بأنه قد تمت هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد شدد بومبيو على هذه النقطة، بإشارته إلى أن تحرير 99 في المائة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيم يعادل هزيمته.
ومع ذلك، يدرك معظم المتخصصين في الأمن القومي في الولايات المتحدة بأنه لن تتم هزيمة تنظيم «داعش» إلا عندما يتم إرساء الاستقرار في المجتمعات، وبناء حكومات مسؤولة، وتوفير الخدمات اللازمة للحياة وتأمين معيشة كريمة خالية من الخوف. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي تستعد الولايات المتحدة استثماره لتحقيق هذه الأهداف، بينما أوقفت، على سبيل المثال، برنامج إرساء الاستقرار في شرق سوريا الذي تصل قيمته إلى 200 مليون دولار أمريكي؟
ويجدر هنا الانتباه إلى أن المرشح لقيادة القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، الجنرال فرانك ماكنزي، أدلى بشهادته أمام الكونغرس الأمريكي في كانون الأول/ديسمبر قال فيها أن “تنظيم «الدولة الإسلامية» ربما لا يزال أكثر قدرة من تنظيم «القاعدة في العراق» في ذروته، مما يشير إلى أنّ تنظيم «داعش» في موقع جيد يخوّله معاودة الظهور إذا تم تخفيف الضغط عليه”. وفي الأسبوع الماضي فقط، شنّ انتحاري من تنظيم «الدولة الإسلامية» هجوماً في العاصمة السابقة للجماعة الإرهابية الرقة، كما أصيب جنديان بريطانيان في هجوم صاروخي للتنظيم، وأعلنت «قوات سوريا الديمقراطية» أنها احتجزت مجموعة من المقاتلين الأجانب التابعين إلى تنظيم «داعش» من بينهم أمريكيان. لذا نرى أن التنظيم يبعث رسالةً إلى العالم مفادها أنّ هزيمته لا تزال أمراً بعيد المنال، وأن المجتمعات الشرق أوسطية ما زالت تعيش في خوف من عودة ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية».
إنّ تصريح بومبيو في القاهرة بأنّ “الضربات الجوية في المنطقة ستستمر مع ظهور الأهداف الجديدة” وضع الذريعة لنفس “الحرب الأبدية” المشكوك فيها التي تستاء منها المجتمعات في المنطقة والتي أصبحت تشكك فيها الحكومات الشريكة للولايات المتحدة في ضوء التصريحات المتقلبة للرئيس الأمريكي فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية. فإلى متى سيبقى الجيش الأمريكي في المنطقة للمساعدة في محاربة الإرهاب؟
وفيما يتعلق بإيران، أشاد بومبيو بـ”حملة ضغط جديدة” لوقف تمويل إيران للإرهاب. وأشار إلى إعادة فرض عقوبات متعلقة ببرنامجها النووي كما أشاد بالجهود التي تبذلها الحكومات العربية لتضييق الخناق الاقتصادي على إيران.
ولكن في حين عمدت بعض الدول إلى تخفيض استيراداتها من النفط الإيراني، إلّا أن الولايات المتحدة منحت تنازلات في تشرين الثاني/نوفمبر لأحد أكبر منتهكي العقوبات الأمريكية، وهي الصين. وفي المقابل، تتمتع روسيا، خصم الولايات المتحدة، بِحُرية التعامل مع إيران تجارياً وعسكرياً، فضلاً عن منع الإجراءات ضدها في مجلس الأمن الدولي. لذا ما زالت كل من روسيا والصين، إلى جانب الدول الأخرى المعفاة [من العقوبات]، تركيا والهند والعراق، تتعامل مع إيران.
ولا تشكّل العقوبات وحدها استراتيجيةً متماسكةً لمنع إيران من تصدير الإرهاب عبر الشرق الأوسط. والآن تتخلى الإدارة الأمريكية عن قوتها الرادعة في سوريا من خلال سحب قواتها من دون رسم خارطة طريق واضحة لجمع كافة عناصر القوة الأمريكية لمواجهة التحدي الإيراني أو هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية».
وكما كان متوقعاً، أعاد بومبيو التأكيد على السياسة المستمرة للولايات المتحدة منذ زمن طويل بشأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ولكن كيف يُعقل ألا تفسّر إسرائيل القرارات الأخيرة لإدارة ترامب بشأن سوريا بأن الولايات المتحدة تتركها لوحدها لمواجهة إيران في سوريا و«حزب الله» اللبناني على الحدود الشمالية؟ كما قدّم بومبيو دعماً أمريكياً لقرار سياسي لا عودة عنه في سوريا من خلال العملية التي تقودها الأمم المتحدة. ولكن كيف يمكن للمدنيين السوريين المحاصرين ولـ ملايين اللاجئين السوريين المشردين في جميع أنحاء المنطقة ألا ينظروا إلى الإجراءات الأمريكية على أنها تخلٍ عنهم لصالح مجرم الحرب بشار الأسد ومخلّصيه، روسيا وإيران؟
أما الأكراد في سوريا، الذين هم شركاء الولايات المتحدة في الحملة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، فقد بدأوا التحوط في رهاناتهم على حكومة الأسد بدلاً من المخاطرة بعملية انتقامية تقوم بها تركيا في ضوء قرار الولايات المتحدة بسحب قواتها. ومن المرجح أن تكون تجربتهم في الشراكة غير الموثوقة مع واشنطن انعكاساً أكثر دقة لنظرة المنطقة إلى الولايات المتحدة المتمثلة بـ “أمريكا أولاً” أكثر من “أمريكا قوة من أجل الخير”.
وأخيراً، أضاع بومبيو فرصةً للتحدّث مباشرة إلى شعوب الشرق الأوسط، الذين تقل أعمار ثلثيهم عن 35 عاماً. ويتمتع هؤلاء الشباب بالوعي حول الشؤون الدولية، وهم متصلون اجتماعياً ويدركون تماماً أن بلدانهم تفتقر إلى الفرص الاقتصادية والحقوق الأساسية.
وفي ختام حديثه أمام الطلاب الذين يمثلون مستقبل المنطقة، شجّع بومبيو الرئيس عبد الفتاح السيسي على “إطلاق العنان للطاقة الخلّاقة التي يتمتع بها الشعب المصري، وتحرير الاقتصاد، وتشجيع التبادل الحر والمفتوح للأفكار”. إلا أن خطابه لم يكن مصحوباً بأي مخرجات – لا شراكات أو تبادلات أو برامج أو مشاريع مشتركة أو أي التزامات بالاستثمار في مستقبل مصر.
لذلك يُعد خط سير رحلة بومبيو في المنطقة أكثر “عودة إلى المستقبل” من الانفصال عن الماضي. فخلال أربع رحلات سابقة قام بها إلى الشرق الأوسط، لم يعقد بومبيو اجتماعاً واحداً [مع منظمة] غير حكومية. أما هذه المرة، فقام بزيارة أحد المساجد وأحد الكنائس في مصر، كما زار حرم “جامعة نيويورك” في أبوظبي، إلّا أن ذلك لا يشكّل بديلاً للحوار المُجدي مع المواطنين أو القادة غير الحكوميين أو كبار رجال الأعمال.
وفي المقابل، عمد وزراء الخارجية الأمريكيين [السابقين] كوندوليزا رايس، و هيلاري كلينتون، و جون كيري، إلى تنظيم نقطة لقاء عامة مدروسة مع جماعات مدنية، أو منظمات شبابية، أو كبار رجال الأعمال خلال زياراتهم إلى الشرق الأوسط. وكان الهدف من تلك الاجتماعات – بأن الولايات المتحدة هي قوة خير وأن شعوب المنطقة هم على القدر نفسه من الأهمية كالحكومات – هو بالتحديد الرسالة التي حاول بومبيو إيصالها. لذا عليه التركيز على ترجمة الكلمات إلى أفعال.
وإذا علّمتنا ثورات عام 2011 شيئاً، فهو أن الشعوب العربية – وخاصة الشباب العربي – تتعطش إلى الفرص الاقتصادية وإلى نوع من التحرير السياسي، إن لم نقل الديمقراطية بمفهومها الغربي.
ومن الواضح أن تعظيم صوت هذه الشعوب، مع الوقوف بشكل مقنع ضد التهديدات التي تواجه الجميع، هو الطريقة الأكثر فعاليةً التي تكون فيها الولايات المتحدة قوة خير [فعلية] في الشرق الأوسط.
بين فيشمان هو زميل أقدم في معهد واشنطن وعضو في “برنامج بيث وديفيد جيدلد للسياسة العربية”. وقد خدم في الفترة بين 2009 و 2013 في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي، من بينها كمساعد تنفيذي للسفير دينيس روس، ومدير شؤون ليبيا، وبعد ذلك، مدير لشؤون شمال أفريقيا والأردن. دانا سترول هي زميلة أقدم في “برنامج جيدلد للسياسة العربية” في المعهد. وكانت قد عملت موظفة رفيعة المستوى في “لجنة العلاقات الخارجية” بمجلس الشيوخ الأمريكي، وشملت مسؤولياتها تغطية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا.