ظل التجاذب الإيراني الأميركي بين مد وجزر طوال الأربعة عقود الماضية، وجرت أحداث متعددة ومتفاوتة الشدة بين البلدين منذ قضية الرهائن الأميركان التي كانت التجربة الأولى للجمهورية الوليدة في فبراير 1979م، واستمر الحال بين الطرفين على هذا المنوال، كما أن هناك مناوشات أخرى جرت أحداثها في لبنان وسوريا على سبيل المثال، بل هناك مواجهات أخرى خارج الإقليم. وبما أن الثورة الإسلامية في إيران قامت على نظام الشاه حليف الولايات المتحدة؛ لذلك استمر العداء بين الطرفين لكبح جماح إيران وتصاعد نفوذها وقوتها، وتدرك إيران هذه المراقبة والنهج العدائي من قبل الولايات المتحدة؛ لذلك سعت إلى امتلاك القوة وتعزيز برامجها الوطنية في تأسيس دولة قوية تستطيع الدفاع عن نفسها أمام التهديدات الخارجية بالاعتماد على نفسها نظرا لما تملكه من مصادر ثروة وتنوع في الإنتاج، ونظام دولة قوي يقف على قاعدة حضارية تاريخية عظيمة، وأتاحت لها الجغرافيا أن تلعب دورا في حسابات السياسة والاقتصاد في المنطقة والعالم؛ لذلك تمكنت من مقارعة القوى الدولية رغم العقوبات المستمرة والحصار الشديد المفروض عليها، فتمكنت من تطويع تلك العقوبات بالاعتماد على الذات والالتفاف عليها في بعض الأحيان بفتح خطوط التبادل التجاري مع دول العالم من أجل تعزيز ودعم الاقتصاد الإيراني.
لقد قدمت الظروف خدمة للجمهورية الإسلامية بدءا” من الحرب العراقية الإيرانية التي دامت 8 سنوات حتى 1988م والتي وحدت إيران مع النظام الجديد، بعدها التفت العالم إلى حدث خطير في المنطقة المتمثل في الغزو العراقي للكويت الذي وضع العراق على رأس أجندة القوى الدولية فاستمر حصاره بعد تحرير الكويت لمدة 13 عاما، وانتهى بغزوه واحتلاله تحت مبررات كاذبة، وهذا الظرف الدولي أتاح لإيران متنفسا مثاليا لتعزيز قدراتها العسكرية وبرامجها الوطنية، وهي تعلم أيضا أن ما حدث في العراق ليس بعيدا عنها، وبالتالي أخذت احتياطاتها اللازمة والاستعداد لأي استهداف محتمل خصوصا مع وجود الولايات المتحدة في العراق، كما أن الظروف أيضا ساعدت إيران باشتعال المقاومة في العراق والتي كبدت الولايات المتحدة أكثر من 4500 من الضحايا في صفوف جنودها، بالإضافة إلى خسائر مادية ضخمة، وهذه الظروف دفعت الولايات المتحدة ثمنها في بنيتها العسكرية والمادية، ومع بروز الأزمة المالية العالمية عام 2008م كانت الولايات المتحدة من أكبر المتضررين فيها.
كل هذه الظروف كانت تنصب في صالح إيران في الوقت الذي توسعت فيه إيران، ويتمدد نفوذها في المنطقة من خلال دعمها لتيار المقاومة في لبنان وفلسطين، وأسهمت بدور كبير في مساعدة سوريا في أزمتها، وهذا بدوره شكل تحالفا عضويا مع أذرع عسكرية لها بصمتها وتجربتها القوية، وبالذات في إطار المواجهة مع “إسرائيل”، وهذا يدل على أن إيران كانت تسير في مسارات إيجابية منحتها فرصة لتعزيز قدراتها في برنامجها النووي والصاروخي ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط، لذلك بقيت صامدة في مفاوضاتها النووية مع مجموعة (5+1) بإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واستطاعت أن تصل إلى اتفاق تاريخي مع تلك القوى في اتفاقية إطار جرت مفاوضاتها في مسقط وتم توقيع اتفاقيتها التفصيلية لاحقا. وكل ما سبق يدل على شيئين هما: القدرات السياسية التي يمتلكها النظام في إيران والتمسك بحقوقها المشروعة في تطوير قدراتها وبرامجها الوطنية، وأخيرا لجأت الأطراف الدولية إلى التدخل في الشؤون الداخلية لإيران بإثارة الاحتجاجات على خلفية الانتخابات والأوضاع الداخلية، ولكنها ما لبثت أن سيطرت عليها الدولة رغم دخول بعض أقطاب السلطة فيها، ولكن إيران أثبتت قدرتها على معالجة قضاياها الداخلية وملفاتها الخارجية مع القوى الدولية، وفي نفس الوقت حاولت تطبيع وتحسين علاقاتها مع الدول المجاورة لها، سواء” المتشاطئة لها في بحر قزوين والتي نظمتها من خلال اتفاقيات تقاسم المياه والثروة حسب نسبة طول حدودها البحرية، وكذلك في الضفة المقابلة للخليج حيث جيرانها العرب، إلا أن العلاقة مع الجار العربي كانت مشحونة في أغلب الفترات، وهذه المسألة هي التي مكنت الولايات المتحدة من الاستفادة من هذه العلاقة غير المستقرة بين الطرفين العربي والإيراني فاستطاعت الدخول من خلالها. وللأسف لم يستفد العرب من نموذج ما حدث بالعراق ودعاوى تصدير الثورة التي زجت العراق وإيران في أتون مواجهة وحرب مدمرة، فاستمر المخطط الخارجي باعتبار إيران هي الخطر المحدق بالعرب وصورتها بأنها أخطر من إسرائيل، وبالتالي أبرمت صفقات كبرى من التسليح للدول الخليجية، واستمر ابتزازها السياسي من خلال الخطر الإيراني الوهمي، مع العلم أن هذه الظروف وحالة عدم الثقة وانتهاج أسلوب المواجهة مع إيران قدمت لإيران نجاحات أخرى على صعيد المواجهة، وعززت من نفوذها في دول الخليج والعراق ما بعد احتلال العراق، بينما كان بإمكان دول الخليج وإيران خلق بيئة إيجابية ومناخ من الثقة أفضل مما هو عليه الحال لو تجنب الطرفان رفع سيوف المواجهة التي اعتمدت على البعد المذهبي للأسف الشديد، ولعب العنصر الخارجي الدور الرئيسي والأهم في تذكية هذا الخلاف من أجل تحقيق مصالحه.
اليوم تدور إحدى حلقات المواجهة بين إيران من جهة والولايات المتحدة ودول الخليج من جهة أخرى، وإن حدث أي خطأ ـ لا سمح الله ـ سيكون الخليج ودوله وشعوبه هم أول الضحايا، وهم من سيحترق في أي مواجهة بين إيران والولايات المتحدة.. وللأسف أن تكون الصورة واضحة وجلية بهذا الوضوح، وما زال الدفع الخليجي نحو نحو الحرب في أوجه، ناهيك عن تكاليفها المادية التي ستكلف دول الخليج تبعاتها، وقد تمت المصادقة مؤخرا على صفقات أسلحة جديدة بأكثر من 8 مليارات دولار تمت المصادقة عليها من قبل وزارة الخارجية الأميركية، وهذا كله يعتبر هدرا لثروات المنطقة، بل وصلت الأوضاع إلى حد التحالف مع كيان الاحتلال الصهيوني والتعاون معه في حروب قائمة في المنطقة، و”صفقة القرن” نموذج آخر من علاقات السفاح العربي الصهيوني، وقد تم التنسيق فيها مع الطرف العربي عبر الولايات المتحدة، وهناك موافقة عربية رسمية للأسف الشديد. هذه التحالفات العربية الجديدة لن تجلب الخير للمنطقة، سواء ما يتعلق بصفقة القرن أو الحرب على اليمن التي يدفع ثمنها أبناء الشعب اليمني واقتصاد دول التحالف العربي، وكذلك في إطار المواجهة الخاسرة مع إيران والتي تدفع باتجاهها دول بالمنطقة توافقا مع الفكرة الأميركية، كما يسمى درء الخطر الإيراني فإلى أين تسوقنا هذه الأفكار، وتسوق المنطقة نسأل الله السلامة لهذا الخليج وشعوبه الآمنة؟
خميس بن عبيد القطيطي