الانقلاب الأردوغاني في سورية
لم يعد صوت رجب طيب أردوغان يأتي هادراً يطالب برحيل بشار الأسد، ولم يعد يطالب بإقامة منطقة أمنية عازلة في الشمال السوري، ولم يعد يتحدث عن الخطوط الحمراء الكثيرة التي رفعها طوال سنوات الأزمة السورية. فالرجل بات يتحدث بلغة إرسال الرسائل التي توحي بالاستعداد للتواصل مع الأسد وإعادة العلاقة معه، يتحدث عن باب السياسة المفتوح، يتحدث بالحرف عن (أن كل شيء يعتمد على الظروف وإنه من غير الممكن الجزم بأنه لا يمكن أن يحدث أبداً). حقاً إنه قائد بارع في صنع التحالفات والانقلابات معاً، والأغرب أن الذين دافعوا عن سياسته السابقة تجاه الأزمة السورية هم أنفسهم يبررون ما يقوم به اليوم.
في السياسة، ثمة من يتحدث عن ان تطورات الميدان هي التي أوصلت الأمور إلى هذه الانعطافة، فالتدخل العسكري الروسي قلب المعادلات والموازين، فيما الدور الأميركي لم ينتج سوى البعبع الكردي على الحدود الجنوبية لتركيا، وأن (الخطر الكردي) بات أولوية بالنسبة إلى أردوغان، وأن كل ما سبق يبرر لأردوغان الأول العبور إلى أردوغان الثاني منذ قرر الاعتذار عن إسقاط مقاتلة روسية على الحدود التركية- السورية، واقترب من موسكو كثيراً، إلى حد عقد صفقات لشراء منظومة الصواريخ «اس 400» إلى درجة أن تركيا بدت وكأنها ليست عضواً في الحلف الأطلسي الذي انضمت إليه في 18 شباط (فبراير) 1952.
بعد كل الذي حصل، لا يحتاج المرء إلى الكثير من الجهد للقول إن الثقة مفقودة بين أردوغان والأسد، وإن حالة الشك المتبادلة هي سيدة الموقف، وإن ثمة صعوبات وعوامل أخلاقية تعترض التواصل بين الجانبين، لكن كل ما سبق لا يعني أن ثمة مصالح قد تقلب المعادلة، بخاصة أن درس اتفاقية أضنة عام 1998 ما زال حاضراً في العلاقات بين البلدين ومن بوابة التعاون في الملف الكردي، قد يجد الطرفان في الرعاية الروسية مساراً لخطوات متبادلة، وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى سماح القيادة التركية لطائرة الأسد بعبور الأجواء التركية عندما كانت عائدة من سوتشي ومن ثم في تأكيد الأسد الاستعداد للانفتاح على كل من يدعم التسوية في سورية.
لعل أكثر ما يريح أردوغان في انعطافته السورية، هو العامل الداخلي، فلا أحد في حزبه وحكومته قادر على الوقوف في وجه سياسته، كما أن مؤسسة الجيش كانت في الأساس متحفظة على أي تدخل عسكري تركي في سورية، كذلك فإن المعارضة التركية اليسارية والكردية وحتى الإسلامية منها، كثيراً ما انتقدت سياسة أردوغان السابقة، وعليه فإنها تبدي الترحيب بانعطافة أردوغان وتستطيع أن تقول للجمهور التركي كم كانت رؤيتها صائبة، لكن كل ذلك لا يهم أردوغان طالما أن المعطيات الداخلية لا تشكل خطراً على انعطافته بخاصة أن ماكنته الإعلامية بدت جاهزة لتحميل مسؤولية كل ما حصل لرئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو.
بانتظار أن يفيض نهر الفرات مجدداً بين أنقرة ودمشق سياسة ومصالح مشتركة على وقع المتغيرات والتطورات، لا مشكلة لأردوغان في سورية سوى مع الأكراد (حلفاء أميركا) الذين يخططون لضرب أمن تركيا وتقسيمها. حجة ربما هي الأفضل لنزول أردوغان عن الشجرة والانقلاب على نفسه سورياً، ولعل هذا ما يفسر إصراره على رفض مشاركة الأكراد في أي مؤتمر دولي حتى لو كانت هذه المشاركة تساهم في الحفاظ على وحدة سورية وتساعد على التوصل إلى حل سياسي لأزمتها. إنها تركيا القوية بشخص أردوغان وفي الوقت ذاته نقطة ضعفها القاتلة.