وجّه الإعصار “دانيال” ضربة موجعة لليبيا ومواطنيها شكّلت الذكرى الأسوأ لهم في 2023، لكنه عكس أيضاً ما يعانيه هذا البلد طيلة أكثر من عقد، وبقاء مؤسساته رهن صراعات لا تتوقف بين الفرقاء على السلطة والنفوذ، ما أفرز فساداً ضارباً وانهياراً في البنى الأساسية وهشاشة الخدمات.
قبل ليلة 9 أيلول (سبتمبر) بأيام، ظلّت جهات الأرصاد الجوية المحلية والدولية تحذّر السلطات الليبية من اقتراب العاصفة “دانيال” من سواحلها، بعدما ضربت اليونان، ومن أنّ أمطاراً غزيرة ستصاحبها، ما يستدعي مراجعة إجراءات الإنقاذ وحالة السدود ومصارف المياه. الأمر لم يتوقف عند حدّ التحذيرات، فمع بداية وصول العاصفة إلى الأجواء الليبية ضربت الأمطار الغزيرة مدن الغرب الليبي فأغرقت شوارعها، لكن ناقوس الخطر الذي يدقّ لم يصل على ما يبدو إلى أسماع السلطات المحلية فكان لا بد من وقوع الكارثة.هكذا دمّر الإعصار مناطق بكاملها…ضرب الإعصار ساحل شرق ليبيا مع ليل 11 أيلول بسرعة بلغت 180 كيلومتراً في الساعة مع كميات قياسية من المياه، لتتجمّع كميات هائلة خلف سد درنة المتصدّع، والذي يعود تاريخه إلى سبعينات القرن الماضي. وتحيط شبهات الفساد بمشاريع إعادة تأهيله من عهد معمر القذافي وبعد سقوط نظامه. لم يتحمّل السد ضغط المياه فانهار، لتنطلق ملايين الأمتار المكعبة من المياه وتتدفق في الوادي، وتجرف في طريقها نحو البحر المتوسط كل ما يقابلها من أشخاص ومبانٍ سكنية، لتستيقظ ليبيا على أكبر مأساة في تاريخها الحديث، إذ محت الفيضانات مدناً بأكملها من على الخريطة، وابتلع المتوسط آلاف الجثث، وضاعف من أعداد الضحايا ضعف قدرات المؤسسات المنقسمة بين الشرق والغرب وهشاشة إمكاناتها، في التدخّل السريع والإنقاذ. مع الساعات الأولى لانكشاف المأساة، توقّع كثيرون أنّ الكارثة ستوحّد الليبيين، وبالفعل تدفقت على المناطق المنكوبة، خصوصاً على مدينة درنة التي يبلغ عدد سكانها ما بين 50 ألف نسمة إلى 90 ألفاً وأصبحت عنواناً للكارثة، المساعدات وناشطون متطوعون من كل حدب وصوب، حتى أنّ دعوات للتبرّع للمنكوبين، سواءً بالمال أم بالدم انطلقت من مساجد العاصمة طرابلس ومختلف مدن الغرب الليبي، وكان لافتاً أنّ درنة جمعت الخصوم العسكريين، بعدما توافدت قيادات عسكرية من الغرب الليبي على مقار “الجيش الوطني” لتنسيق جهود الإنقاذ، كما ساهمت تركيا ودول إقليمية مقرّبة من قادة الشرق الليبي، بفرق الإنقاذ والبحث عن المفقودين.
لكن مع هدوء العاصفة وتواري الكارثة خلف تطورات دولية وإقليمية، عاد الصراع بين الحكومتين إلى الواجهة، ما ألقى بظلاله على جهود التخفيف من هول المأساة عن الناجين وإعادة إعمار ما دمّرته العاصفة. وبعد مرور أربعة أشهر على الإعصار، لا تزال الشكوى مستمرة من ضعف جهود عمليات انتشال الجثث ورفع الركام بل وتراجعها، وإغاثة المنكوبين. أرقام الكارثةولم تعلن السلطات الرسمية الأعداد النهائية لضحايا الفيضانات، وتوقف عدّادها الرسمي بعد أسبوع من الكارثة على نحو 4 آلاف قتيل، لكن ناشطين محليين ومنظمات دولية يؤكّدون أنّ عدد الضحايا يصل إلى أكثر من 10 آلاف قتيل ومثلهم من المفقودين، في وقت تحدثت الأمم المتحدة عن نزوح أكثر من 43 ألف شخص، فيما قدّرت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا العدد بأكثر من 44 ألف شخص، غالبيتهم في المناطق الشرقية لليبيا بنسبة تقدّر بـ 93 في المئة، أما الباقون فنزحوا إلى غرب البلاد، ولا سيما العاصمة. وأوضح مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، أنّ أكثر من 30 ألف شخص تلقّوا مساعدات إنسانية في المناطق المتضرّرة، وأنّ 350 أسرة متضرّرة في درنة تقيم في مخيمات موقتة غير رسمية، فيما لفتت الهيئة الطبية الدولية إلى أنّ 84 في المئة من المستشفيات و88 في المئة من مراكز الرعاية الصحية الأولية في المناطق المتضرّرة من الفيضانات خرجت من الخدمة أو تعمل بشكل جزئي، كما فقدت المدينة نحو 20 مدرسة. ووفقاً لمراقبين، فإنّ الانقسام الحكومي في ليبيا والفساد الضارب في عمق المؤسسات يشكّلان العائق الأكبر أمام جهود الاستجابة لكارثة “دانيال”، وإعادة إعمار ما دمّرته الفيضانات، وهو ما أكّدته الأمم المتحدة والدول الغربية الكبرى التي رهنت تقديم المساعدات بتشكيل آلية موحّدة تُشرف على عمليات الإعمار، على أن يخضع صرف الأموال لإشراف أممي. مؤتمر بلا نتائجالانقسام الحكومي كان يخيّم على فعاليات مؤتمر دولي دعت إليه الحكومة الموازية في الشرق الليبي برئاسة أسامة حماد، لبحث عملية إعادة إعمار المناطق المنكوبة وتمويلها، لكن المؤتمر الذي كان مقرّراً في البداية في 10 تشرين الأول (أكتوبر) وتأُجل لينعقد مطلع تشرين الثاني (نوفمبر)، لم يخرج بنتائج على الأرض، فلم يحظ بتمثيل الدول الكبرى ومنظمات التمويل الدولية، واقتصرت فعالياته على عرض المشاريع من عدد من الشركات الدولية الراغبة في تقاسم كعكة إعادة الاعمار، وظلّت معضلة التمويل تراوح مكانها.
ورغم تعهدات السلطات الليبية بفتح تحقيق شفاف في الكارثة، لم تقدّم أي نتائج حتى الآن، واكتفى النائب العام بالإعلان في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي عن تحريك دعوى جنائية ضدّ 16 مسؤولاً محلياً عن إدارة مرفق السدود في البلاد، مشدّداً على أنّ التحقيقات تحتاج إلى وقت، ولا حاجة لتدخّل القضاء الدولي في التحقيق، في خطوة استنكرتها منظمات حقوقية دولية، شدّدت على ضرورة أن تشمل التحقيقات السلطات الليبية لتقاعسها في التعاطي مع الإعصار الذي يُعتقد على نطاق واسع أنّه كان سيكون أقلّ فتكاً في حال استجابت السلطات المحلية لإنذارات الخطر.