دعوة لاحتواء مآثر علماء لغتنا العظيمة

1

 
 
 
لا يخفى على أي باحث في تاريخ علوم اللغة العربية وجود الكثير من المؤلفات والمصادر التاريخية لمؤلفين ومفكرين وعلماء لم يحظوا بتنجيم التاريخ لهم أو إلقاء الضوء على حياتهم وإنجازاتهم، وبهذا فإن ميراثنا من اللغة العربية ما زال يخفي بين جنباته أسرار خلودها ولا زال يدعو من يسبر أغوار كنوزها، من العلماء الذين اشتغلوا بأصول اللغة وقواعدها وعلومها المختلفة ليسهموا في انتشارها وفي الحفاظ عليها لغة قويمة صحيحة من خلال ما قدموا من آثار ومؤلفات تداولتها أجيال وأجيال وصولا إلى يومنا هذا، فأثروا الحضارة العربية وامتد علمهم ليصل ما بين الشرق والغرب، فهم بشهادة العالم أجمع كانوا رموزا وعلامات فارقة في وضع وتفسير وتطوير اللغة واصولها، أبدعوا وابتكروا وأسهموا في تصحيح اعوجاج اللغة العربية لمن سبقونا ولنا نحن.
ولا يوجد في تاريخ اللغة العربية أعظم شأنا في تقويمها وأكثر إصلاحا لأصولها مثل المبرد، أبو العباس، الذي أصبح بما لا يدع مجالا للشك أو الجدال أكبر قدرا من سيبويه في النحو والصرف في اللغة العربية بفضل ما جاد به فكره النقي وإتقانه للغته العربية وإخلاصه لها في جهوده التي قدمها لتصحيح الأخطاء والمغالطات التي وردت في كتاب سيبويه للنحو.
هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن حسان بن سليم بن سعد بن عبد الله بن يزيد بن مالك بن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن أسلم – وهو ثمالة – بن أحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث، وتذكر المراجع الموثوقة إنه سمي بالثمالي نسبة إلى ثمالة، عوف بن أسلم، وهو بطن من الأزد.
وقد عني المبرد بالتعريف وبالعوامل والمعمولات وبالسماع والتعليل والقياس، وكان يحتكم دائما إلى القياس، لكنه لم يكن يقدمه على السماع عند العرب، ويعد آخر أئمة المدينة البصرية، وقد كثرت المناظرات بينه وبين ثعلب زعيم مدرسة الكوفة وكتب له فيها التفوق عليه دوما. أما شيوخه، فقد أخذ الأدب عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني ولزم أبا عمر علي الجرمي يقرأ عليه كتاب سيبويه، في حين تتلمذ على يديه كل من أبي بكر بن دريد الذي اشتهر بالمباحث اللغوية، وابن درستويه الذي اشتهر بالمباحث الصرفية، ومحمد بن علي مبرمان، والأخفش الصغير علي بن سليمان الذي اشتهر في المباحث النحوية، والزجاج والسراج.
لقد تمتع المبرد بسمات شخصية وملكات فريدة، فقد أوتي قوة خارقة في حفظ اللغة وآدابها، وذهنا صافيا يمحص به ما يحفظ ويقرأ، وحسا رقيقا يستشف به مواطن الحسن في الكلام حين تخفى على غيره، ومواطن العيب فيه حين لا يدرك غيره جوانب هذا العيب، ومنطقا واضحا فصيحا يجذب به ثقة الناس في علمه وأدبه، كما امتلك حجة مقنعة فاصلة استطاع بها أن ينتصر على خصومه ومناظريه. إننا لسنا في مقام أن نذكر ما لهذا العالم الجليل من آثار وما ترك من علامات فارقة في لغتنا العربية، لكننا نسعى لأن نمنح لمثل هذا العالم وقتا وبضع سطور لندرك عظم ما قدمه، ولتكون دعوة لبذل المزيد من الجهود على المستويات الثقافية والعلمية واللغوية للبحث فيما ترك من مؤلفات صغيرة وكتب تنويرية في التاريخ وعروض وفنون الشعر، إلى جانب إبداعه وإتقان تفسير القرآن الكريم باعتماده قواعد النحو والصرف في تفسيرها.
رغم أن العديد من الخطوات قد اتخذت لإحياء تراث وآثار هذا العالم الجليل، وغيره من العلماء اللغويين كإقامة المؤتمرات وتنظيم الندوات المتخصصة، إلا أن مظاهر الاهتمام الحقيقي لا تزال تفتقر إلى التنوع والانتشار حول الوطن العربي، إن الدعوة لاحتواء مآثر علماء لغتنا العظيمة إنما هي دعوة للحفاظ عليها وصونها من كل ما هو دخيل وغريب من الألفاظ والتراكيب، وهي مسؤولية لا تقع فقط على عاتق القائمين على اللغة العربية وأصولها، بل على الأفراد والمؤسسات البحثية المجتمعية، هي جهود ما أحوجنا إليها في وقتنا الحاضر، وهي دعوة يؤمل أن تصل أصداؤها لمن يحرص على لغته وقوميته.
 
د. مسعود بن سعيد الحضرمي

التعليقات معطلة.