د. عمرو الشوبكي
لم يرتَح كثيرون لطريقة وزيري خارجية فرنسا وألمانيا، أثناء زيارتهما الأخيرة إلى دمشق، وبخاصة حين بدأوا في إعطاء دروس حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي سبق ونستها وزيرة الخارجية الألمانية بتصريحها المخزي حول غزة، حين قالت إن من حق إسرائيل استهداف المستشفيات لحماية أمنها، ولذا من الصعب أن ينظر إلى نصائحها على أنها في صالح الشعب السوري.
وإذا كان الحضور الأوروبي والغربي في سوريا يمثل محاولة محدودة لاستعادة إرث «المبعوثين الأمميين» الذين سبق وأُرسلوا إلى كثير من البلاد العربية، ولم تسفر جهودهم عن أي حل، رغم أن بعضهم كان على درجة كبيرة من الكفاءة والمهنية، لكن المعضلة أن المدخل الأورو ـ أميركي في التعامل مع صراعات المنطقة كان خاطئاً، وبالتالي كانت مخرجاته كلها فاشلة.
والحقيقة أن سوريا مثل اليمن والسودان وليبيا، شهدت حضور سيل من المبعوثين الأمميين والأميركيين، وجميعهم أخفقوا في إيجاد حلول للصراع الدائر بهذه البلدان، فمنذ 2011 عين الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون مبعوثاً أممياً إلى ليبيا؛ وهو وزير الخارجية الأردني الأسبق عبد الله الخطيب، وهو رجل مشهود له بالكفاءة والمهنية، ومع ذلك لم ينجح في مهمته، مثل كل من جاءوا بعده من البريطاني إيان مارتن، مررواً باللبناني طارق متري والإسباني برناردينو ليون، وانتهاء بغسان سلامة ومارتن كوبلر، إلى جانب مبعوثين خاصين وأميركيين وجميعهم أخفقوا في مهمتهم.
الأمر ذاته تكرر في اليمن الذي عرف أسماء مهنية كبيرة مثل جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ، وجميعهم عجزوا عن إيقاف الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد، أما السودان الذي عرف ثورة مدنية سلمية انتهت باقتتال أهلي بين الجيش و«الدعم السريع»، فقد فشلت جهود فولكر بيرتس في منع الاقتتال الأهلي وصناعة توافق بين فرقاء الساحة السياسية، وتكرر ذلك مع المبعوث الأميركي توم بيريلو الذي لم ينجح في مهمته حتى اللحظة.
ولم تخرج سوريا عن سياق ما جرى بهذه البلدان، فقد عين في بداية المواجهات المسلحة في 2012 أمين عام الأمم المتحدة الأسبق كوفي عنان مبعوثاً أممياً في سوريا، وتبعه الأخضر الإبراهيمي وستيفان دي ميستورا، وفشلوا جميعاً في إقناع النظام بتقديم أي تنازلات؛ سواء بإخراج الميليشيات الإيرانية والإفراج عن المعتقلين السياسيين ووضع دستور جديد، أو البحث في بدائل للإصلاح من داخل النظام نفسه بطرح أسماء مثل فاروق الشرع وآخرين بديلاً لحكم بشار الأسد، وتكون نتيجتها الحفاظ على ما تبقى من الدولة السورية وإصلاحها، وهو ما رفضه الأسد وأركان حكمه بشكل كامل.
واللافت أن سوريا كانت البلد الوحيد الذي عرف سلطة متماسكة ومؤسسات قائمة عقب اندلاع الانتفاضة الشعبية في مارس (آذار)2011، وهو على عكس السودان وليبيا واليمن حيث انقسمت السلطة المركزية أو غابت، وكانت أمامها فرصة أن تجري عملية إصلاح من داخلها أفشله نظام بشار الأسد واستخدم أدوات قمع إجرامية غير مسبوقة.
والحقيقة أن المسار الذي اتخذه القادة الجدد في سوريا منذ سقوط النظام، هو البعد عن فكرة اقتسام سلطة المرحلة الانتقالية مع أطراف المعادلة السياسية، الذي عني في التجارب العربية الأخرى بأنه تقاسم للسلطة قبل بنائها بين أطراف مختلفة في التوجه والحسابات السياسية والبنى العسكرية من خلال أدوار مبعوثين أمميين، كانت مهمتهم الرئيسية العمل على إعادة بناء الدولة من خلال اقتسام السلطة بين مؤسساتها في واقع يعاني من سيولة وانقسام.
ومع فشل مشروعات المبعوثين الأمميين في اقتسام السلطة بليبيا والسودان واليمن وسوريا، قدمت القيادة السورية الجديدة نموذجاً لا يخلو من مخاطر وقائماً على مطالبة الجميع في الداخل والخارج بإعطاء الثقة لطرف أو مشروع سياسي يكون محل توافق بين معظم الأطراف بدلاً من تلك الجهود المتعثرة التي قام بها المبعوثون الأمميون، وعملت على خلق سلطة ضعيفة مفتتة للسيطرة عليها، أو خوفاً من إعادة إنتاج النظام القديم والديكتاتورية.
إن ما تميزت به التجربة السورية أن قادتها الجدد يبنون مؤسسات جديدة بعد أن سقط النظام والدولة من خارج نظام المحاصصة واقتسام السلطة الذي فشل في كل التجارب العربية الأخرى، وأن البناء الجديد وضعته السلطة الجديدة بالتشاور فقط مع الآخرين، وأصبح على قمته قادة من لون واحد سواء في وزارة الدفاع أو الداخلية أو الخارجية.
هذا المسار يمثل فرصة نجاح؛ لكنه لا يخلو من تحديات ومخاطر أهمها كيف يمكن بناء مؤسسات دولة مهنية ومستقلة عن السلطة التنفيذية وخلفيات كثير من عناصرها قادمة من فصائل إسلامية مسلحة؟ هذا تحدٍ ليس بالسهل، وقد يكون الحضور العربي في سوريا عاملاً في دعم هذا البناء الجديد على أسس وطنية جامعة.