على طول الطريق الفاصل بين مدينتي القدس والخليل البالغ 83 كيلومتراً، يدهشك الهدوء وأعداد السيارات القليلة التي تسير بجانبك وقد تتجاوزك في بعض الأحيان. في يوم شتوي مشمس، لا يمكنك قطّ أن لا تتلفت حولك وأنت تشاهد المستوطنات الواحدة تلو الأخرى جاثمة أمامك على قمم الجبال، وتشبه في تركيبتها البيوت التي تكوّنها حجارة الليغو.
المستوطنات التي تنامت عاماً بعد آخر تذكرك كلما خرجت من المدن الفلسطينية، أو تنقلت بين أحياء مدينة القدس، بوجودها وبأنها نتاج لمشروع استعماري هدفه الأول والأخير هو الاستيلاء على الأرض من سكانها الأصليين، وقطع أواصر التواصل بين المدن والقرى الفلسطينية، التي أصبحت محاطة بجدار فصل عنصري وبسياج شائك في بعض الأحيان يشبه في علوه جدران السجون. كذلك يمكنك ملاحظة الحركة على إسفلت الشارع السريع داخل ممرات ضيقة تلفت الانتباه، إذ تقوم وزارة المواصلات الإسرائيلية بتوسيع الطريق بالقرب من التجمع الاستيطاني الأكبر في الجنوب غوش عتصيون. فالمشاريع الاستيطانية لا تنتهي، وثمة خطط بانتظار الموافقة لفصل شمالي الضفة عن جنوبها، وكلما تمعنت في المشهد حولك ينتابك الشعور بأن ما خفي أعظم.
بعد شهرين من الحرب الشرسة المتواصلة على قطاع غزة والقتال المحتدم فيه، لا يمكن الفصل بين ما يحدث في غزة والضفة الغربية، التي يبدو الوضع فيها تنفيذاً للخطط القديمة، التي تقوم حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة بتنفيذها. إغناتيوس: رقعة شطرنج“النهار العربي” التقى الصحافي والكاتب الأميركي البارز في صحيفة “واشنطن بوست” ديفيد إغناتيوس خلال جولة له في الأيام القليلة الماضية في شمال الضفة الغربية وجنوبها، إضافة إلى مدينة القدس، وسألناه: أنت هنا منذ ثلاثة أيام وتتنقل في مختلف أنحاء الضفة الغربية. لذا، باعتبارك شخصاً يعرف البلد من قبل، فلا بد أنك شهدت الكثير من التغييرات، ما طبيعتها؟
يجيب إغناتيوس: “دُهشت خلال هذه الأيام الثلاثة، عندما رأيت كيف قُطعت أرض الضفة الغربية إلى أجزاء صغيرة. إنه مثل المشي عبر رقعة شطرنج من مربع إلى آخر. والأمر الوحيد الذي تعلمته هو أولاً المشكلات التي يواجهها الفلسطينيون يومياً، في مجرد محاولة العيش، ومحاولة الانتقال من مكان إلى آخر، إضافة إلى المضايقات، وأحياناً العنف الذي يتعرضون له. لقد أدركت أيضاً أن ما نأمله جميعاً، وأنا شخصياً بالتأكيد، وهو إنشاء دولة فلسطينية، سيكون في غاية الصعوبة بسبب المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي أنشأها مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين يقيمون اليوم في الضفة الغربية”.
ويضيف: “لذا، فإنني أفهم فهماً أفضل مدى تعقيد هذه المشكلة. عندما أعود إلى الولايات المتحدة سأكتب عموداً في صحيفة “الواشنطن بوست” لأقول: إن كنتم جادين في إقامة دولة فلسطينية، فسيكون هذا أصعب مما تعتقدون. وإليكم بعض الأمور التي يجب أن تفكروا بها”. اعتداءات المستوطنين وسياسة التهجيرتنتظر الضفة الغربية مصيرها وسط قلق متزايد بين السكان بأن الآتي أخطر من كل ما سبق، وأن اعتداءات المستوطنين المتطرفين خلال الفترة الماضية ما هي إلا البداية لمشروع سلب وقتل وتهجير جديد ربما يشبه كثيراً نكبة 1948، لكن المجزرة الصامتة في أنحاء كثيرة تثير الرعب لدى السكان.
لم يسلم الفلسطينيون من القتل في المدن والقرى برصاص الجيش والمستوطنين، ولا من التهجير إلى التجمعات البدوية في وسط الضفة الغربية والأغوار والجنوب في محافظة الخليل، وسرقة المحاصيل الزراعية مثل القمح والزيتون وقطعان المواشي التي تقدر بالمئات، ولا من حصار شامل يطبق على المدن والبلدات بحجة حماية المستوطنين الذين يحظون بحماية لا مثيل لها، فيما يضطر الفلسطينيون للالتفاف في الطرق البعيدة الوعرة للوصول إلى أعمالهم والعودة إلى بيوتهم، وتم الحد من سفرهم على الطرق، إضافة إلى مطالبة وزراء الحكومة الحالية وزير المالية بيتساليئل سموتريتش “إقامة طرق عازلة حول المستوطنات لحماية المستوطنين من الديماغوجية الفلسطينية”.
ازدادت نسبة الاعتداءات من قبل المستوطنين في 2023 إلى 60 بالمئة من عام 2020، دون محاسبة وبإغلاق ملفات الشكاوى واهتمام إعلامي قليل وصمت لافت. ومنذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) يقبع أكثر من 3 ملايين فلسطيني تحت الحصار بانتظار المجهول الذي قد يخفي في ثناياه أكثر السيناريوات رعباً وقلقاً.
هل يرى الصحافي الأميركي المخضرم مما شاهده أن الصراع سيظهر مختلفاً أو أن خريطة الشرق الأوسط أو المنطقة ستتغير في نهاية هذه الحرب؟
يجيب إغناتيوس: “من الممكن أن نشهد تغييرات في أعقاب هذه الحرب، التي آمل أن تنتهي قريباً. وندرك جميعاً أن الحروب في الشرق الأوسط فظيعة، لكنها تمهد الطريق أمام التغيير. وأدت حرب 1973 إلى معاهدة سلام بين إسرائيل ومصر. وشهدت العلاقات صعوداً وهبوطاً، لكن السلام لا يزال قائماً. لا تتقاتل الجهتان. وهذا أمر جيد. وهو جيد لشعبَي البلدين. ربما تظهر بعد الحرب عملية من شأنها أن تطلق حركة حقيقية نحو دولة فلسطينية، مع سلطة فلسطينية أقوى تخدم الشعب حقاً، فضلاً عن تغييرات تسهل على الفلسطينيين العيش والعمل، وإنشاء حكومة جديدة في فلسطين. وقد تلبي غزة، والضفة الغربية أيضاً، احتياجات السكان على نحو أفضل”.
ويضيف: “أعني، إذا حدث ذلك، يمكن القول إن الحرب، رغم مأسويتها، حققت نتائج إيجابية. لكني أريد فقط أن أذكّر نفسي بمدى صعوبة الأمر. لا ينبغي لأحد أن يحلم بأن تكون هذه العملية سهلة. ستكون في غاية الصعوبة… حرب من أجل السلام. ولا بد من أن نقاتل يومياً من أجل تحقيقه”.