يسدل الستار بعد أيام قلائل على ذكرى مئوية الزعيم الخالد جمال عبدالناصر؛ هذه الذكرى التي احتفت بها الجماهير والقوى الشعبية العربية الناصرية من المحيط إلى الخليج، فقد كانت ذكرى مئوية ميلاده في 15 يناير 2018م حيث ولد جمال عبدالناصر في هذا اليوم من عام 1918م، وكقائد عربي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس حتى بعد رحيله الذي ناهز نصف قرن، إلا أنه ما زال حديث الجماهير العربية وحديث الإعلام، وما زالت صوره مرفوعة في كل مناسبة قومية عربية، وهو الزعيم العربي الوحيد الذي ما زالت بعض دول العالم تحتفي به كقائد ثوري حقق العديد من المنجزات على الصعيد الوطني والقومي، بل خرج من دائرته العربية والإفريقية ليسهم في تأسيس منظمة عدم الانحياز، وعرف بمواقفه القوية في مجابهة القوى الاستعمارية في المنطقة، ما أدى ذلك إلى الاصطدام بتلك القوى من خلال تأييده لحركات التحرر في الوطن العربي وإفريقيا، ذلك ما أقض مضاجع الغرب كثيرا، لكن عبدالناصر صمد في مجابهة تلك المواقف التي استهدفت مصر والأمة العربية.
لقد ترك جمال عبدالناصر مبادئ عظيمة أسست لمدرسة فكرية ناصرية، ومشروعا ما زال قائما حتى اليوم، وتجربة فريدة في الحكم تقوم على أسس الحرية والاشتراكية والوحدة من أجل القضاء على الاستعمار ونبذ التخلف والطبقية والتجزئة، واعتمدت تلك المبادئ على تأسيس جيش قوي والقضاء على الإقطاع والقضاء على الاستعمار، وتحقيق عدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية، وتعتبر هذه المرتكزات من أهداف ثورة يوليو 1952م التي قادها الزعيم جمال عبدالناصر.
هناك محطات رئيسية من حياة هذا الزعيم لا بد من المرور عليها، فقد شارك جمال عبدالناصر في حرب فلسطين عام 1948م وحدث حصار الفالوجا وظلت القوات المصرية المحاصرة تقاوم حتى انتهت الحرب بالهدنة التي فرضتها الأمم المتحدة في 24 فبراير 1949م، وجرح عبدالناصر أثناء الحرب مرتين ليمنح لاحقا النجمة العسكرية تقديرا لجهوده في تلك الحرب، وهكذا عندما تتهيأ الظروف والمواقف لمثل هؤلاء القادة ليصبحوا من القادة التاريخيين.
واستكمالا لبعض المحطات التاريخية من حياة الزعيم جمال عبدالناصر وصولا إلى العام الذي سبق الثورة، فمع اندلاع المواجهات في مدينة الإسماعيلية بين قوات الاحتلال الإنجليزي ورجال الأمن المصريين التي أدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، وحادث حريق القاهرة الذي التهم دار الأوبرا، ما أدى إلى خسائر مادية كبيرة، ومقابل تلك الأحداث لم يكن التحرك الرسمي بالمستوى المأمول، بل إن الملك كان يحتفل بعيد ميلاد نجله وولي عهده في قصر عابدين وسط القاهرة، كل تلك الإرهاصات أدت إلى التعجيل لتنفيذ الثورة وتحدد تاريخ 23 يوليو 1952م للقيام بتلك الثورة، فسيطر الضباط الأحرار على قيادة الجيش والمراكز المهمة بالدولة، وبث بيان ثورة يوليو 52م بعد نجاح لافت، وكانت ثورة بيضاء لم يسقط خلالها ضحايا، وسلم الملك السلطة وقرر نفيه إلى الخارج وتم ترتيب ذلك بمراسم خاصة، مما يؤكد أن الثورة ليس لديها نزوع نحو الانتقام، وأعلن تعيين اللواء محمد نجيب لرئاسة الجمهورية رغم أنه لم يكن في اللجنة التنفيذية لمجلس قيادة الثورة، وبعد عامين آلت الرئاسة لجمال عبدالناصر بعد مطالبة نجيب بتوسيع صلاحياته كرئيس في تعيين وعزل الوزراء والضباط، ولم يكن لمجلس قيادة الثورة الخروج عن نظامه الأساسي، وربما كانت هناك أسباب أخرى لذا تم قبول استقالته، وأصبح عبدالناصر رئيسا للجمهورية في عام 1954م، وفي نفس العام وقع عبدالناصر اتفاقية الجلاء مع الإنجليز، وقد كان ذلك هو الهم الوطني الأول للثورة، وفي نفس الوقت بدأت مصر حراكا سياسيا اقتصاديا اجتماعيا، فأنشئت المصانع التي بلغت 1200 مصنع من مصانع القطن إلى مصنع الصواريخ البالستية، وهكذا عندما تقرر الشعوب وقيادتها الانطلاق نحو المستقبل تعززها الإرادة الوطنية، وحصل الفلاحون على قطع أراض زراعية ملكا لهم. وفي عام 1956 أعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس فشنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عدوانا ثلاثيا على مصر وبدأت المقاومة الشعبية المصرية إلى أن أعلنت الأمم المتحدة إيقاف العدوان، فحقق عبدالناصر ما كان يصبو إليه وبقيت قناة السويس تحت السيطرة المصرية.
في 22 فبراير 1958م قامت الوحدة العربية بين مصر وسوريا وأصبح عبدالناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، فكانت تلك الوحدة هي لبنة أولية في مشروع الوحدة السياسية العربية. لا شك أن السد العالي كان يمثل مشروعا عظيما وأكبر مشروع عالمي في القرن العشرين بدأت الدراسات فاستقدم الخبراء، وتقدمت مصر بطلب قرض إلى البنك الدولي حاولت الولايات المتحدة إيقافه ثم تمت الموافقة عليه لاحقا بعد استخدام أوراق الضغط التي وظفها عبدالناصر في صالحه، وبدأت الأعمال في السد العالي في يناير 1960م. وعلى الصعيد الداخلي أيضا حقق عبدالناصر عددا من المنجزات فيما يتعلق بالوضع المعيشي في مصر ودعم السلع الغذائية الرئيسية وقانون الإصلاح الزراعي، وبنى برج القاهرة ومبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون، وكانت إذاعة صوت العرب تعلن عن ظهور قيادة عربية محورية تحرك الجماهير العربية في اتجاه واحد مؤكدة على موقف موحد يجمع الأمة العربية وقيادتها المحورية، بالإضافة إلى ذلك كان هناك عدد من المنجزات الأخرى على الصعيد الداخلي مثل تأسيس إذاعة القرآن الكريم التي بثت القرآن مسجلا إلى مناطق أخرى وساهمت في نشر الإسلام وبناء عدد كبير من المساجد وتطوير جامعة الأزهر لتشمل مختلف العلوم، وتستقطب عددا كبيرا من الدارسين من مختلف الدول شاملة الدراسة والإقامة والمعيشة، والكثير من المنجزات الأخرى التي وضعت مصر في مصاف الدول الصاعدة.
لا شك أن عبدالناصر ليس نبيا مرسلا وبطبيعة الحال هناك بعض ما أعتبر من اخطاء التجربة الناصرية مثل حالة حقوق الانسان في السجون وبعض الممارسات الخاطئة التي حدثت والتي تم اكتشافها لاحقا فحوكم أصحابها، وكذلك حرب 67م التي حدثت في وقت لم تكن القوات المسلحة جاهزة فعليا وربما استدرجت مصر لتلك الحرب، وعلى كل حال فالزعيم جمال عبدالناصر كان يعمل مخلصا من أجل بلده وأمته واراد القدر ان يرحل في خاتمة قومية عربية خالصة بعد نهاية اجتماعات القمة العربية الطارئة لمناقشة احداث أيلول الاسود في 22 سبتمبر 1970م، فرحم الله جمال عبدالناصر وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
خميس بن عبيد القطيطي