حرب الثماني سنوات التي فرضها دكتاتور العراق ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية أزهقت أرواح مئات الآلاف من الأبرياء، ومن أقسى جرائمه قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً حيث سقط آلاف المدنيين الأكراد غالبيتهم من النساء والاطفال ضحية لهمجية هذا النظام الفاشي وداعمية الاقليميين والغربيين.
فور انتصار الثورة الإسلامية في إيران بادرت القوى الاستكبارية إلى اتخاذ كافة الإجراءات العدائية بغية إفشالها لذلك تكاتفت مع دكتاتور العراق المقبور صدام حسين لشن حرب جائرة ضد الجمهورية الإسلامية الفتية، فتمخضت عن هذه الحرب أكثر الأحداث قساوة في تلك الآونة أبرزها قصف مدينة حلبجة الكردية بقذائف كيمياوية مما أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء في منطقة كردستان العراق، وهؤلاء في الحقيقة ضحايا لمجازر جماعية منظّمة ارتكبها النظام البعثي المقبور في العراق.
وقد تم تنفيذ هذه العمليات الإجرامية في يوم الجمعة المصادف 16 آذار / مارس 1988 م لذلك عرفت بالجمعة الدامية، حيث سجل التأريخ في إحدى صفحاته السوداء مجزرة بحق المدنيين الأكراد العراقيين العزل عن السلاح، وهذه الحادثة الأليمة هي صورة أخرى لما حدث في مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، لذا يمكن اعتبار حلبجة ثالث مدينة شهدت مجازر فجيعة بالأسلحة الحديثة، وهذا الأمر بكل تأكيد ينم عن همجية القوى الاستكبارية المعاصرة واستهانتها بحقوق الإنسان.
* قصف حلبجة عملية انتقامية من هزائم أزلام صدام
القصف الكيمياوي لمدينة حلبجة تزامن مع انتصارات أبطال القوات العسكرية الإيرانية في سوح القتال ولا سيما في العمليات الموسومة بـ ” والفجر 10 ” التي تم خلالها تحرير الكثير من المناطق التي تقطنها القومية الكردية وبما فيها مدينة حلبجة من ظلم النظام الصدامي وارهابه، فبعد أن توغلت قوات الجمهورية الإسلامية في عمق هذه المدينة أسرع السكان في هذه المدينة والقرى المجاورة إلى استقبالها إلا أن هذا الأمر لم يرق لقوات نظام صدام الديكتاتوري، لذلك لم يجدوا بداً من الانتقام لهزائمهم المتوالية سوى اللجوء إلى الأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً للقضاء على المواطنين الأكراد الذين استنشقوا الصعداء بعد تحريرهم من جور صدام وأزلامه.
الذي تولى هذه العمليات العسكرية الإجرامية المعدوم علي حسن المجيد ابن عم الطاغية صدام الذي لقب فيما بعد بـ ” علي كيمياوي “.
قبل إطلاق القذائف الكيمياوية قامت القوات العراقية آنذاك بقصف المدينة بالقذائف التقليدية لمدة يومين متواليين، وهذه الإجراءات أراد منها علي حسن المجيد تحطيم زجاج المباني تمهيداً لضربها بأسلحة كيمياوية لكي لا يتمكن أي مواطن كردي عراقي من البقاء حياً وراء زجاج المنافذ الذي يحول دون دخول الغازات السامة إلى الدور السكنية.
* قصف حلبجة بالكيمياوي مأساة يندى لها جبين البشرية
في الساعة الثانية بعد ظهر يوم الجمعة المصادف 16 آذار / مارس 1988 م وبعد تحرير مدينة حلبجة من قبل القوات الإيرانية الباسلة في عمليات ” والفجر 10 ” اتجهت نحو أجوائها 50 طائرة قاصفة من طراز ميراج وسوبر أتندارد فرنسية الصنع تابعة لنظام صدام، فدخلت أجواء المدينة من الجهة الغربية ثم اتجهت نحو الجنوب فألقت كل واحدة منها أربعة قذائف كيمياوية يبلغ وزن الواحدة منها 500 كغم على رؤوس المواطنين الأبرياء، وخلال عدة دقائق غطت المدينة سحب صفراء لتبدأ مآساة إنسانية جديدة لا نظير لها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث توفي آلاف الناس الأبرياء والعزل.
الغاز الذي استخدم لإبادة أهالي حلبجة هو الخردل ” إيبريت ” حيث يؤثر على الأعصاب ويسبب طفح جلدي مميت ويدمر الرئتين بالكامل. وقد استخدم النظام البعثي المقبور هذا السلاح الفتاك ضد أكراد العراق الأبرياء وسط صمت دولي، إلا أن البروفسو البلجيكي أوبين هاندريكس مدير مختبر السموم في إحدى المستشفيات البلجيكية أكد على أن الجيش الصدامي قصف حلبجة بثلاثة أنواع من الغازات السامة وهي الخردل ” إيبريت ” وغاز الأعصاب ” تابون سارين ” أو ” سومان VX ” و غاز ” سيانوجين ” وقد تم استيرادها من بلدان غربية بوساطة أحد دلالي السلاح الهولنديين باسم فان آن رات.
عظمة هذه الكارثة الإنسانية كانت كبيرة للغاية، فعلى الرغم من الصمت الدولي المطبق وتجاهل وسائل الإعلام الغربية ما حدث، إلا أنها مع ذلك قد أثرت سلباُ على مكانة العراق دولياً، بل حتى أثرت على حماته من الغربيين والعرب حيث بدرت ردود أفعال شاجبة ومنددة على الصعيد الدولي.
* الخسائر الإنسانية في مأساة حلبجة
يتراوح عدد ضحايا مجزرة حلبجة بين 3200 إلى 5000 قتيل والجرحى بلغ عددهم 7000 أو 10000 جريح وغالبيتهم من المدنيين، وقد خلفت العديد من المعاقين الذين ولدوا مشوهين بسبب تأثر والديهم بالغازات السامة التي استنشقوها، وقد اعتبرت الأوساط الدولية هذه الحادثة بأنها مجزرة جماعية وهي لحد الآن تعتبر الأولى من نوعها في تأريخ البشرية، إذ لم يتم استخدام أسلحة كيمياوية بهذا النطاق ضد مناطق آهلة بالسكان.
* صدمة دولية جراء ما حدث في حلبجة وتجاهل قاتل
بعد هذه الحادثة المأساوية نشرت بعض الصور ومقاطع الفيديو التي تجسد جانباً مما حدث، وبالطبع فالمصورين الإيرانيين هم الذين قاموا بذلك، وقد كانت لها أصداء واسعة في الرأي العام العالمي نظراً لفجاعة المناظر التي تصورها، ومن بينها صورة للمواطن الكردي عمر خاور الذي مات وهو يحتضن طفله الذي لم يتجاوز السنة من العمر وهو قرب باب داره محاولاً الفرار، حيث اعتبرت هذه الصورة رمزاً لمجزرة حلبجة فيما بعد.
ورغم كل ما جرى في هذه المدينة المنكوبة ومع استمرار نظام البعث الصدامي باستهداف المدن الإيرانية، إلا أن الرأي العام العالمي بقي صامتاً، بل وحتى منظمة الأمم المتحدة لم تحرك ساكناً آنذاك لتندرج مجزرة حلبجة إلى جانب سائر مجازر صدام وتطوى صفحتها دونما أي عقاب، لذلك أصبحت هذه المأساة ضحية للتجاهل الدولي خشية من فضح الحماة الغربيين الذين كانوا يدعمون دكتاتور العراق.
وقبل هذه الحادثة أصدر مجلس الأمن الدولي – بناء على التقارير التي قدمها الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة آنذاك خافيير بيريز ديكويلار – أصدر بياناً حذر فيه طرفي النزاع من استخدام الأسلحة الكيمياوية لكنه لم يقيد ذلك بالعراق، مما زاد من جرأة الدكتاتور صدام حسين وفاقم استهتاره.
وفي خضم هذه الأوضاع أرسلت الجمهورية الإسلامية جرحى هذه المجزرة إلى عدة بلدان أوروبية ومن جملتها ألمانيا والنمسا والسويد وغيرها لكي تتمكن وسائل الإعلام الغربية من مشاهدة ضحايا مجزرة حلبجة عن كثب ولتعرف مدى همجية نظام صدام، فنشرت بعض وسائل الإعلام صوراً للضحايا ولما حدث هناك الامر الذي أثار سخط الشارع الغربي ضد العراق وضد مجلس الأمن الدولي، لذلك اضطر الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للموافقة على إرسال لجنة لتقصي الحقائق إلى حلبجة وإلى المستشفيات الإيرانية، كما أن طهران قدمت دعوة للإعلاميين والصحفيين لأن يزوروا حلبجة عبر أراضيها ويشاهدوا ما حدث هناك.
* حماة نظام صدام المجرم
دكتاتور العراق المقبور صدام حسين حظي بدعم كبير من قبل القوى الغربية حيث قدموا له أحدث الأسلحة الفتاكة وبما في التجهيزات اللازمة لصناعة واستخدام الأسلحة الكيمياوية المحرمة دولياً إضافة إلى الأسلحة الميكروبية والمشعة، لذلك تمكن نظامه المجرم من ضرب العديد من المناطق العراقية الحدودية والإيرانية بهذه الأسلحة المدمرة، وحسب الخبراء الإيرانيين فإن هجماته الكيمياوية كانت أوسع نطاقاً مما استخدم في الحرب العالمية الأولى وذلك طوال ثماني سنوات من الحرب الجائرة التي فرضها على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وبدعم مالي كبير من البلدان العربية تمكن النظام العراقي من تطوير تقنيته التسليحية الكيمياوية وإنشاء العديد من المعامل المخصصة لهذا الغرض، وقد كان لألمانيا الغربية آنذاك حصة الأسد من تزويد هذا النظام الجائر بالمعدات الكيمياوية، حيث زودته بما ورثته من ترسانة الحرب العالمية الثانية ففي عام 1985 م بادرت أكثر من 150 شركة ألمانية إلى مساعدة العراق في هذا المضمار، فقصفت الكثير من المناطق الحدودية المجاورة للعراق سواء العراقية منها والإيرانية، حيث أصبحت مختبراً للأسلحة الفتاكة الغربية، ومن جملتها جزيرة مجنون وبيران شهر وسر دشت ومريوان وبانه وسربيل زهاب ومهران وخرمشهر وشلمجة ونودشه وأشنوية وحلبجة، وغيرها.