رأيك الذي لا يقبل النقض أو الجدل

1

توفيق السيف

توفيق السيفكاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».

أردت في مقال الأسبوع الماضي دعوة القراء للتفكير في قيمة المعارف التي يحملونها بالقياس لما عند غيرهم. ولعلي بالغت قليلاً إذ زعمت أن ما تراه العين وما تسمعه الأذن، كلاهما من نوع الظنون، ولا يرقى لمرتبة الحقيقة، رغم ما شاع بين الناس من اعتبار رؤية العين دليلاً لا يقبل الشك.

أعمق الردود على تلك الفكرة، هو قول أحد الزملاء، بأن مضمون المقال يساوي إنكار أي وجود للحقيقة في العالم، فكأن مراده أن الذي نراه أو نعرفه مجرد وهم، أو – على أحسن التقادير – مرحلة انتقالية بين الظن والحقيقة.

لكنني ما قصدت هذا بطبيعة الحال، بل أردت تشجيع القارئ على مجادلة قناعاته، لا سيما الراسخة والعميقة منها، التي نظنها حقائق نهائية لا تقبل الشك ولا التعديل. وقد وجدت أن طرح المسألة في صورتها الأكثر تطرفاً، أدعى لتحقيق المراد، وهو إثارة الأذهان. إن التفكير والتأمل هما الطريق الوحيدة في اعتقادي لاكتشاف حدود المعرفة وقيمتها، الأمر الذي يهدينا للتواضع والتسامح، واحترام الرأي المضاد، مهما بدا غريباً عما ألفناه أو ارتحنا إليه.

ما يثير الجدل في غالب الأحيان، ليس الحقائق الصريحة، بل الآراء الملتبسة بالحقيقة أو التي يدعي أصحابها أنها تطابق الحقيقة. إن إطلاق شخص مثلي صفة الحقيقة على رأيه، لا يزيل عنها صفة الرأي الشخصي، إلا إذا وافقه الناس جميعاً، أو غالبية معتبرة منهم، حيث تلبس حينئذ صفة الوجود الموضوعي، مثل وصف «آيفون» الذي اخترعه ستيف جوبز، فكان مجرد فكرة شخصية، لكنه تحول لاحقاً إلى حقيقة موضوعية تشبه الحقيقة التي نسميها التراب والشجر والحديد. فهل يا ترى يمكن إطلاق نفس الوصف على الآراء التي أحملها أنا وأنت أو سائر الناس، الآراء التي تتعلق بمختلف قضايا حياتنا أو حياة الآخرين؟.

كنت قد شرحت في كتابة سابقة رؤية الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، الذي قسم موضوعات المعرفة إلى ثلاثة إطارات أو عوالم، أولها الكون المادي الذي نعيش فيه، والذي يتكون من عناصر واقعية نستطيع لمسها بأيدينا. يتأمل البشر في هذه العناصر ويسعون لفهمها واستكشاف الصلات التي تربط بينها، ثم يضعون استنتاجاتهم في صورة نظريات تتضمن وصفاً وتفسيراً لما تعرفوا عليه.

أما العالم الثاني فهو تصوراتنا عن ذواتنا وعن العالم المحيط بنا، والتي تتشكل على ضوئها مواقفنا من الأشخاص والحوادث. حركة الذهن في هذا الإطار هي ما يشكل عالمنا الذي نعرفه. بعبارة أخرى فإن مجموع تأملات البشر في أنفسهم وفي الآخرين، هو المصدر الذي يشكل معنى العالم ومعنى الأفعال التي يقوم بها البشر، حين يتعاملون مع بعضهم.

ثالث العوالم هو مجموع ما ينتجه العقل الإنساني، ويطرحه كموضوع مستقل عن صانعه وعن الأشخاص الآخرين، نظير مثال الآيفون الذي يبقى ويتطور بعد رحيل صاحبه، الذي – على الأرجح – ليس معروفاً عند غالبية مستعملي هذا الاختراع. ومثله أيضاً الآلات والشبكات والبرامج والأعمال الفنية والكتب والأدوية والأغذية، وكل شيء مطروح أمام البشر كمنتج نهائي، لا يرتبط استمرار وجوده بإرادة من صنعه.

هذه عوالم متفاعلة. فالعالم الأول يوفر موضوعات عمل الثاني، حيث يتحول التأمل إلى فكرة جديدة، يتحول بعضها إلى منتج معياري، يحفظ في العالم الثالث. رغم أنها مترابطة ومتفاعلة، إلا أن هذه العوالم الثلاثة لا تقبل التحديد أو الحصر، كما لا تقبل السكون والثبات، فهي في حال تغير دائم: في الوصف والفهم والاعتبار، كما في حالة العالم الأول، أو في التفسير وطرق الإنتاج، كما في الثاني، أو في نوعية المنتج النهائي وانتقاله من الأدنى للأعلى، الذي نسميه «الأحدث» كما في العالم الثالث.

عد الآن وفكر في رأيك: إلى أي من هذه العوالم ينتمي، كي تظنه حقيقة لا تقبل الشك أو الجدل؟.

التعليقات معطلة.