باسل الحاج جاسم
تركيز سياسي و اعلامي كبير حظي به اعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب، بدء سحب قوات بلاده من سورية، حيث ذهب البعض لاعتباره تغيير في الاستراتيجية الاميركية، بينما ذهب اخرون لوصفه تخلي عن الحلفاء، مع ان ترامب تحدث عن ذلك القرار في اكثر من مناسبة، في أوقات سابقة.
يعيد هذا التركيز الى الاذهان الاهتمام الذي حظيت به القمة الروسية الأميركية «التاريخية» في هلسنكي في 16 تموز (يوليو) العام الفائت، فهي كانت الأولى بشكل مباشر بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و نظيره الاميركي دونالد ترامب، منذ انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة عام 2016.
وفي حين كانت زيارتا الرئيس الأميركي، قبل لقائه بوتين، بروكسل ولندن عاصفتين، إذ انتقد خلالهما بشدة حلفاءه في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، سيما ألمانيا التي اتهمها بأنها «رهينة» روسيا، فأن نقاط الخلاف بين واشنطن وموسكو كثيرة، من ضم شبه جزيرة القرم في آذار (مارس) 2014، ومروراً بما يجري في سورية، إلى الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة. ولكن الرئيسين ظهرا راضيين عما أنجزاه في هلسنكي، وقال ترامب إنها «ليست سوى بداية» لاستعادة العلاقات، فيما رأى بوتين أن المحادثات كانت «ناجحة جدا ومفيدة للغاية».
أظهرت قمة هلسنكي أنه عندما يتحدّث ترامب عن مقاربته الشخصية تجاه روسيا، فإنه غالباً ما يتناقض مع سياسات إدارته، فهو لم يرفض فقط تأكيد المعلومات عن الدور الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإنما أيضا لم يندد بضم شبه جزيرة القرم، والتدخل العسكري الروسي في شرق أوكرانيا، وموقف بوتين الثابت في سورية.
أوضح ترامب أنه يريد أن يصادق بوتين، وبدلاً من وصف بوتين خصما، وصفه بأنه «منافس جيد»، وكرّر أنه سيكون «جيداً» أن تتوافق الولايات المتحدة وروسيا. ووفقاً لوسائل إعلام أميركية، حتى أن مستشارين في إدارته صرّحوا بعد القمة بأن ترامب لم يتبع النص المتفق عليه في قمة هلسنكي.
و بالعودة الى سورية،فقد استطاعت دول ثلاثي أستانة (روسيا، تركيا، ايران) تهدئة الوضع في سورية، إلى حد كبير، إضافة إلى إنشائها أربع مناطق لخفض التصعيد، لم يبق منها اليوم سوى واحدة في محافظة ادلب ومناطق اخرى محيطة بها تمتد بين ارياف حلب وحماة واللاذقية.
اعدت التذكير بمناطق خفض التصعيد و التي كانت احداها في جنوب سورية في محافظة درعا، من اجل الاشارة ان الولايات المتحدة الاميركية كانت طرفاُ ضامنا فيها عن المعارضة السورية، عندما جرى توقيع اتفاق خفض التصعيد في عمان، الا اننا لم نسمع اي تصريح من اي مسؤول اميركي عن خشيتهم على اهالي درعا او على المعارضة هناك، بعد ان تم انهاء الاتفاق و تخلت واشنطن عن الفصائل هناك (حليفة اميركا)، وتركت لروسيا وإيران و دمشق الباب مفتوح للتقدم والسيطرة.
في حين ظهرت تصريحات كثيرة من اكثر من جهة اميركية عقب اعلان ترامب بدء الانسحاب من سورية،و اظهار معظم تلك التصريحات ابعاد عرقية، تخفي خلفها مشاريع شيطانية لتمزيق الجمهورية العربية السورية، واقامة كيان استيطاني على اراضي عربية لاسيما في المنطقة الممتدة شرق الفرات و منبج، بعد ان تحدثت منظمة العفو الدولية عن جرائم حرب تعرض لها العرب في تلك المنطقة على يد الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني )المصنف ارهابيا على قوائم الناتو(، و هو الذي جعلته واشنطن حليف في محاربة «داعش» في تهميش واضح للعرب،الذين يشكلون الاغلبية المطلقة في تلك المنطقة.
اللافت في تصريحات وزير الخارجية الاميركي مايكل بومبيو او مستشارالامن القومي جون بولتون انهم يخلطون بين الاكراد كقومية (احدى الاقليات في سورية لاتتجاوز ستة في المئة)، وبين احزاب انفصالية ممارساتها الاقصائية معروفة ضد الاكراد انفسهم، فحتى اليوم الاف الاكراد من مدينة عين العرب السورية هم لاجئين في تركيا مع ان البلدة تقع تحت سيطرة تلك المجموعة المسلحة التي تدعمها واشنطن.
اين كان هؤلاء المسؤولون الاميركيون عندما قام الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني و لاحقا تحت مسمى قوات سوريا الديموقراطية، بتهجير عشرات الالاف من العرب، ومسح مئات القرى العربية شرق الفرات من على وجه على الارض، وذلك وفق لتقارير منظمة العفو الدولية.
ما سبق ذكره اعلاه يكشف ان في الولايات المتحدة سياستان روسيتان، و كذلك ما يخص سورية هناك اكثر من سياسة.
والسؤال الذي يطرحه الواقع، في “رئاسة ترامب”: هل ينطبق هذا الحال ايضا، على معظم القضايا والأزمات الدولية الأخرى، من العلاقة مع حلف الناتو، مرورا بملفات الشرق الأوسط الشائكة (عدا أمن إسرائيل)؟
* باحث في الشؤون الروسية والتركية