في المستقبل الذي يشارك داريو أمودي في صناعتِه كل يوم، يكتشف الذكاءُ الاصطناعي علاجاً يقضي على السرطان لكنَّه أيضاً يدمّر وظائفَ البشر. في هذا العالم، ينمو الاقتصادُ بمعدلات متسارعة مدفوعاً باستثمارات ضخمة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتودّع الحكومةُ عجزَ الموازنة، لكن مع معدل بطالة قد يصل إلى 20 في المائة. صحة أفضل لمعظم الناس، ودخل أقل لملايين من أصحاب الحظ العاثر!
حذّر أمودي في حوارات حديثة مع عدد من وسائل الإعلام الأميركية أن الأدوات التي تطورها شركات الـAI قد تؤدي إلى «حمام دم» يقضي على العديد من الوظائف المكتبية لحديثي التخرج في قطاعات عدة مثل التمويل، والبنوك، والقانون وغيرها. هو لا يتحدث هنا عن سيناريو بعيد، بل عن السنوات القليلة القادمة.
لا ينتمي أمودي، الرئيس التنفيذي لشركة «أنثروبيك» للذكاء الاصطناعي المسؤولة عن تطوير برنامج «كلود»، لفئة المبشّرين بالنعم غير المحدودة التي ستغدقها علينا التكنولوجيا. في المقابل، يرى إيلون ماسك أن الذكاء الاصطناعي سيحدث تغييراً راديكالياً في سوق العمل دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى ارتفاع كبير في معدل البطالة. في عالمه، السيناريو الأقرب للحدوث هو أن نعيش في «عصر الوفرة».
لا أتفق تماماً مع توقعات أمودي، لكني سأحاول أن أشرح هنا كيف أن تجاهل تحذيره خطأ فادح، لأن ما يتنبأ به حدث من قبل عدة مرات على مدار التاريخ وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التطور التكنولوجي لا يعني بالضرورة رخاء مضموناً للبشرية.
لنا في الثورة الصناعية خير مثال. في عام 1812، قررت السلطات البريطانية إنزال عقوبة الإعدام بحق أي شخص يتعمد تخريب آلات الغزل والنسيج الجديدة، التي أدت إلى زيادة صاروخية في إنتاج الملابس وانخفاض كبير في الطلب على الأيدي العاملة. كانت سرعة التغيير في ذلك الوقت صادمة، لدرجة أن الاقتصادي البريطاني دايفيد ريكاردو أعرب في عام 1821 عن قلقه من أن تتمكن الآلات من أن تقوم بكل وظائف البشر، قبل أن يضيف: «حينها لن يكون هناك طلب للعمالة».
غني عن القول إن نبوءة ريكاردو لم تتحقق بالكامل، حيث شهدت العقود التالية توظيف الآلاف في مصانع جديدة في مدن مثل مانشستر، مهد الثورة الصناعية. غير أن ذلك لم يصاحبه ارتفاع ملموس في الأجور أو «وفرة» من أي نوع للعاملين فيها. على العكس، عانى عمال تلك الفترة من زيادة في عدد ساعات العمل وأحوال معيشية مزرية، في الوقت الذي جنى أصحاب الشركات ثروات طائلة، لدرجة ألهمت شابين ألمانيين، كارل ماركس وفريدريك إنغلز، لكتابة «بيان الحزب الشيوعي» عام 1845. بعبارة أخرى، خرجت الشيوعية من رحم أهم حدث في تاريخ الرأسمالية العالمية حتى يومنا هذا.
تغيرت الأمور كثيراً مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بسبب تطورات تكنولوجية مثل سكك الحديد والتلغراف والتليفون. صحيح أنها قضت على بعض المهن (التوصيل والشحن بعربات تجرها الخيول، على سبيل المثال) وخلق آلاف الوظائف الجديدة في الهندسة والاتصال والخدمات. كما أسهمت قدرة الموظفين على المطالبة بحقوق أكثر في زيادة الأجور وتحسين أحوالهم المعيشية.
يتحدث سايمون جونسون ودارون أسيموغلو، الحائزان على جائز نوبل في الاقتصاد لعام 2024، في كتابهما «القوة والتقدم: صراعنا الممتد لألف عام حول التكنولوجيا والازدهار»، الصادر قبل عامين، عن هذه الأمثلة وأكثر، وعن أهمية إدراك أن مسار التطور التكنولوجي وأثره ليس حتمياً، بل هو خيار سياسي واجتماعي. لكنهما يحذران أيضاً من خطورة سيطرة نخبة المبشرين بالتكنولوجيا والمستفيدين منها على هذا المسار.
هذا يجعل من تحذير أمودي أكثر أهمية، لأنه ينتمي للنخبة نفسها التي يرى جونسون وأسيموغلو أنها منحازة بالكامل لنادي الرؤساء التنفيذيين على حساب بقية الناس. فلماذا، إذن، لا أتفق مع تحذيره بشكل كامل؟ لأني لا أعتقد أن هناك أي نظام سياسي غربي قادر على تحمل معدل بطالة يصل إلى 20 في المائة لفترة طويلة دون تدخل سياسي أو تشريعات لإعادة بعض من التوازن على الأقل إلى سوق العمل.
أمودي ليس أكثر الناس تشاؤماً من تطور الذكاء الاصطناعي وأثر ذلك على البشرية. ففي سيناريو أكثر قتامة للكاتب الأميركي ماثيو كيرشنباوم، لا تفنى البشرية بفعل اصطدام نيزك بالأرض، أو بفعل غزاة قرروا تدمير الكوكب لبناء طريق سريع يربط بين المجرات، لكن بسبب خروج برامج الذكاء الاصطناعي عن السيطرة لتكتب نصوصاً لانهائية تقضي على التواصل الإنساني إلى الأبد.
شخصياً، أفضل النيزك!

