رحاب / الباحثون عن العمل: المهارة أولا

1

 
 
أحمد المعشني
 
منذ سنوات تقدم شاب من محافظة ظفار بطلب وظيفة ميكانيك معدات ثقيلة إلى ورشة كبيرة لأعمال ميكانيكا السيارات وصيانتها في مؤسسة حكومية مرموقة، عُرف ذلك الشاب بعشقه للمحركات منذ كان طفلا، يفككها ويعيد تركيبها، ويستمتع إلى صوتها، وخصوصا المعدات الثقيلة، فقضى طفولته يعبث بكل المعدات الصغيرة حتى شغلته عن الدراسة ولم يحصل على شهادة. وكان المشرف على الورشة خبيرا في اكتشاف المواهب بمجرد النظر؛ ما أن رأى ذلك الشاب أمامه، حتى طلب منه أن يصعد إلى إحدى المعدات ويشغلها ويقوم بتفكيك بعض أجزاء محركاتها، فعل الشاب ما طلب منه في منتهى الإتقان والسرعة، وبدون تفاصيل كثيرة، تم اختياره للوظيفة بينما اعتذر لأقرانه الخريجين. غاب بريق الشهادات وانخفضت قيمتها بعد أن كانت الشهادة هي مفتاح الإنسان في عالم الفرص، فالكثير من الأعمال المتوفرة والمتجددة في سوق العمل اليوم تتطلب أن يكون الباحث عن عمل سريع التعلم وكثير الممارسة وعنده شغف في المحاولة والخطأ، ولديه صبر لا يكل ولا يمل من العمل والتجريب ليلا ونهارا، في الوقت الذي لا يزال أغلب الآباء يحرصون في قلق أن يحصل أبناؤهم على الشهادة مدفوعين بوهم أن الذي لا يحمل الشهادة لن يكون له مستقبل، وبالتالي فهم يبذلون الكثير من الجهد والمال لكي يضمنوا مستقبل أبنائهم ويطمئنوا على مصيرهم في الحياة، ولا يحرص أغلب أبناء مجتمعنا على أهمية وخطورة العوامل التي تدعم الشاب لكي ينجح، كمعرفة الهدف في الحياة، والقابلية للتعلم والتدريب وتبني اتجاهات إيجابية في الحياة نحو الذات ونحو الآخرين ونحو الحياة والفرص والحرص على إتقان مهارات مفيدة في عالم يقل فيه الكلام والتنظير، وتفوز فيه الاختراعات والابتكارات والعمل المتواصل. فلم تعد الشهادة هي كل شيء في عالم تأمين المستقبل المهني للشخص، بل صارت الشهادة في أحيان كثيرة عائقا، تجعل المؤسسات زاهدة في الباحث عن عمل الذي يحمل شهادات عليا، ويطلقون عليه مؤهلا أعلى من المطلوب. إن أزمة الباحثين عن العمل في مجتمعنا، ليست بسبب قلة الوظائف والفرص، وإنما يمكن أن تعزى إلى تدني مهاراتهم المهنية المتعلقة بالوظيفة وفي اتجاهاتهم نحو المهنة والمؤسسات وافتقار أغلبهم إلى قيم الانتماء المهني، وإلى اعتمادهم على الشهادات، وعدم سعيهم للتفكير والعمل بطريقة غير مألوفة. وهذا يضعنا أمام معضلة كبيرة تتمثل في أن مناهج التعليم في بلادنا تحتاج إلى إعادة نظر من الروضة وحتى الجامعة، فالتعليم الذي يكلف الحكومة الكثير من الجهود والأموال يجب أن يعاد تصميمه من قبل مؤسسات المجتمع والمثقفين والمعنيين بالشباب وبسوق العمل ليكون أقل كلفة وأكثر اختصارا وتركيزا، ويلبي حاجات سوق العمل، ويحفز على الإبداع والاختراعات التي تخلق كثيرا من الفرص والوظائف. هناك العديد من الشباب الذين يعملون في مهن متنوعة ومختلفة وخصوصا المهن الفنية والمشروعات الذاتية، والأعمال الموسمية وليسوا مقيدين في وظائف ثابتة وجامدة، أعرف كثيرا من الشباب في محافظة ظفار، يعملون في كل موسم في نشاط مهني مختلف، ففي الشتاء يقصدون البحر للصيد، وفي الصيف يمارسون التجارة ويسافرون بين الشرق والغرب، وفي الخريف يتجهون إلى الأعمال السياحية والعقارية وتقديم الخدمات وفي الصرب (الربيع) يستأنفون أعمال البحر والسياحة الشتوية. وبعضهم يتجه إلى استيراد وتصدير المنتجات بين الشرق والغرب، كما راجت هذه الأيام تجارة الإنترنت، حتى في طلب الطعام أو في التعليم، أو في التصميم والإبداع.
إن العديد من كبار رجال الأعمال في السلطنة ممن صعنوا ثروات وبنوا أسماء شركات مشهورة ليسوا من المتعلمين ولا ممن يحملون درجات علمية، كما أن كثيرا من الذين ساهموا في غرس الاستقرار والأمن والسلام في هذا الوطن المعطاء هم من العصاميين الذين جابوا الشرق والغرب في شبابهم بحثا عن التعليم ولقمة العيش، وعادوا في السبعينيات بدون شهادات لكنهم كانوا فنيين وتجارا ومنتجين، فساهموا في بناء السلطنة التي نعتز بها ونفتخر بها.

التعليقات معطلة.