د ـ أحمد بن علي المعشني
لو حاولت الآن أن توجه انتباهك إلى الأصوات من حولك، سواء أكانت قريبة أو بعيدة، سواء أكانت كلامًا أو أصوات آلات، ستستغرب من تنوع وصخب تلك الأصوات التي لم تنتبه لها إلا عندما وجّهت انتباهك إليها، وبدون أن تدرك، فإن الصخب والضجيج يمارسان تأثيرًا سلبيًا عليك، وعلى كل من يتعرض لذلك، سواء شعرنا به أم لم نشعر.
من هنا، ظهرت ممارسة الصمت كطريقة للعلاج واستعادة السلام والهدوء، وشحذ قدرات الإنسان الإبداعية.
يتمثّل الصمت في جلوس الشخص بمفرده في مكان هادئ ونظيف، بعيدًا عن الفوضى والإزعاج، يجلس الممارس بمفرده أو برفقة معالج أو مدرب، ويمتنع عن الكلام تمامًا، والدخول في حالة من التأمل والاسترخاء ببساطة، مع التخلي عن الهاتف النقال وجميع الوسائط الإلكترونية، وحتى عن القراءة، وإفراغ العقل من جميع الأفكار والمشتتات، والدخول في حالة سلام داخلي، وهذا الأسلوب ليس فقط لعلاج الاكتئاب والقلق والتوتر، بل أيضًا لعلاج الأمراض العضوية، وكذلك لحل المشكلات، والبحث عن الحلول الإبداعية، واستقبال الإلهام، وشحذ البصيرة.
ومنذ أيام، جاءني شاب يعاني من أفكار اكتئابيه مزعجة، ويشكو ألمًا في صدره وبطنه نتيجة موجات الاكتئاب الخطيرة، وكانت استجابته في اليوم الأول للعلاج باستنزال النور الإلهي مشجعة؛ إذ تخلّص من كمية كبيرة من الاكتئاب، وفي اليوم الثاني، أضَفتُ إليه العلاج بالصمت، ووجّهتهُ إلى الجلوس في غرفة صغيرة، نظيفة، خالية من الأثاث، باستثناء كرسيين وسجادة صلاة وفرش أرضي بسيط، أطفأت الإنارة، ثم دربته على الدخول في حالة التأمّل والاسترخاء، ثم استدعاء اليقظة العقلية، بعد ذلك، طلبت منه أن يمتنع عن التفكير تمامًا، بعد أن يستحضر نية التخلص من الاكتئاب وجميع الوساوس والأفكار السلبية، ووجّهته إلى أن يسمح لجميع الأفكار بالمرور دون أن يتفاعل معها أو يقاومها.
تتراوح مدة التطبيق من 10 إلى 20 دقيقة، ويمكن أن تزيد بالممارسة، مكث الشاب في غرفة العلاج بالخلوة والصمت أكثر من 10 دقائق، وكررنا التدريب في أماكن أخرى خارج المركز، وتابعت معه النتائج، وأبدى إعجابه بهذه الطريقة البسيطة والمؤثرة جدًّا. وهي أسلوب روحاني ونفسي مارسه الأنبياء والنسّاك والحكماء على مرّ الزمن، وتساعد على تنقية العقل من التشويش، والتخلص من الأفكار السلبية، وتحسين التركيز.
عندما يعزل الفرد نفسه عن المؤثرات الحسيّة الخارجية، ويعزل أفكاره الداخلية، فإنه بذلك يبني جسرًا بين ذاته العليا العميقة وبين عقله الواعي، فتنزل الأفكار الإبداعية والإلهامات بطريقة سلسة وفعّالة، دون أن يشعر بها أو يعيها الممارس، لكنّها تتجلّى في حياته، وفي نتائج أفعاله، وفي طريقة معيشته، فيشهد حالة من السلام الداخلي، ومن الوعي الذاتي، وإدراك المشاعر وإدارتها، والعيش في الوقت الحاضر، وشهود حالة من السكينة التي لا يريد الممارس أن يغادرها أبدًا.
د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية