رحيل التشيكي إيفان كليما الشاهد على قرن مجنون

4

كتب روايات عن القمامة والحب وجعل الضعف بطولة إنسانية
لنا عبد الرحمن
الروائي التشيكي الكبير إيفا كليما (الوكالة التشيكية للانباء)
ملخص
“ما دام الإنسان قادراً على قول الحقيقة، فليس كل شيء قد ضاع”. يمكن لهذه العبارة أن توجز رؤية إيفان كليما للحياة، الكاتب التشيكي الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في براغ، تاركاً خلفه إرثاً أدبياً وإنسانياً فريداً، يثير أسئلة جوهرية حول دور الأدب في مواجهة الاستبداد وحول إمكان الكلمة أن تغير التاريخ والذاكرة أن تشفي الأمم.
ربما لم يقدم كليما إجوبة مباشرة عن مثل هذه الأسئلة، لكنه عايشها في كل سطر كتبه، ويمكن القارئ التوقف أمام هذه المعاني في رواياته التي حرص من خلالها على تقديم وجهة نظر فكرية، تتشابك بعمق مع رؤيته الفنية للكتابة.
تميزت روايات كليما بعمق إنساني فريد مزج بين الواقعية والتأمل الفلسفي، ليصوغ رؤية أدبية تحمل تأويلات متعددة، مع أفكار تتمحور حول تصوير الفرد تحت القمع كإنسان عادي يخطئ ويخاف ويصمد، بالتوازي مع استكشاف دور الأخلاق وسط السكوت الجمعي الذي يغذي الظلم بالصمت أو الخوف، وحضور الكتابة كفعل مقاومة سياسي في عالم تكمم فيه الأفواه. أما الذاكرة، فإنها تحمل الصدمات وتشكل وعي الإنسان والحب والعلاقات الإنسانية، وتبدو كملاذ للأمل والمقاومة في خضم الظلم.
حب متعدد
في روايته “حب وقمامة”، الصادرة عن دار التنوير، ترجمة الحارث النبهان، يقدم كليما أحد أكثر تصوراته عمقاً عن الإنسان الباحث عن المعنى في عالم خانق، عبر علاقة مثلثة تجمع البطل بزوجته الرزينة وعشيقته الفنانة المتقدة. ولا تطرح العلاقة كصراع عاطفي وحسب، بل كمرآة نفسية للانقسام الداخلي بين الواجب والرغبة وبين السكون والحياة. فتبدو الزوجة رمزاً للنظام والاستمرار، بينما تجسد العشيقة شغف الخلق والحرية، وكلاهما يشكلان قطبي الوجود الإنساني الذي يتأرجح بين الاتزان والانفجار.
214071.jpg
رواية لكليما بالترجمة العربية (دار التوير)
وقدم كليما أيضاً صورة بطله الكاتب الذي حولته السلطة القمعية إلى عامل نظافة في شوارع براغ بعد عودته من أميركا، في تجسيد رمزي لانكسار المثقف أمام منظومة تسحق المعنى والكرامة. وهذا التحول لا يقدم كحدث مأسوي صرف، بل كاختبار لجوهر الإنسان في مواجهة الفخ الاجتماعي، والخوف من تلاشي الصلة بالآخرين، وسط رتابة الحياة اليومية، هكذا يتحول التأمل إلى نوع من أنواع المقاومة الهادئة، إذ يكشف كليما عبر بطله عن أن الخطأ والضعف والخوف ليست علامات سقوط، بل تجليات لإنسان يحاول البقاء من دون أن يدعي بطولة، في عالم يصادر حتى حق الإنسان في أن يكون عادياً. لنقرأ “لقد كنت متفانياً في عملي على الدوام، وكنت أكافح دائماً لكسب أية دقيقة إضافية للكتابة…كنت أعاود الرجوع لذكريات زمن الحرب، مع أنها كانت تزداد ضبابية. كان الأمر كما لو أني أحس واجباً تجاه من ماتوا ولم أمت معهم، وأن عليّ أن أرد الجميل إلى تلك القوة الخيرة التي انتشلتني من ذلك القدر المعمم وسمحت لي بالعيش”.
وفي هذه الرواية أيضاً نجد بعداً روحانياً فلسفياً يتجاوز البنية الواقعية لأحداثها، ويتجلى فيها تأمل عميق في علاقة الروح بالجسد والحياة بالموت، وكأن أبطاله يعيشون على تخوم العالمين. ففي أحد تأملاته عن الحبيبة التي يرتبط معها بعلاقة عاطفية، يطرح رؤيتها عن الروح بوصفها رمزاً لاستمرار الوجود في صور مختلفة، لا كعقيدة دينية، بل كرؤية شعرية للخلود الإنساني. ويقول “تترك الروح الجسد بعد الموت وتدخل جسداً آخر، جسد حيوان أو شجرة… كانت تستطيع سماع أنين الشجرة عند قطعها”. وهذه الصورة تكشف عن حساسية روحية رفيعة، يرى فيها كليما أن الوجود مترابط في كل عناصره، وأن الألم الإنساني لا ينفصل عن ألم الطبيعة. ومن خلال هذا المنظور، تصبح الروح في رواياته قوة رحّالة تتجاوز حدود الجسد، في محاولة للبحث عن معنى الحرية في أكثر صورها صفاء وتجريداً.
حدود البراءة
506108.jpg
رواية أخرى (دار التنوير)
وإذا كانت رواياته تطرح الوجود الإنساني تحت وطأة القمع، فإن مذكراته “قرني المجنون”، “My Crazy Century”، تكشف عن الجذر الأول لذلك الوعي المأزوم.
يستعيد كليما تجربة طفولته في معسكر الاعتقال النازي “تيريزين”، بوصفها جرحاً فادحاً داخل وعيه الإنساني. ولا يقدم ما عاشه من رعب على أنه حدث استثنائي منفصل عن الزمن، بل كخبرة يومية تعيد تعريف معنى البقاء والهشاشة معاً. فكان الخوف الدائم من الترحيل إلى “أوشفيتز” أشبه بدرس قاسٍ له، يعبر عن مدى هشاشة الفرد الأعزل، حين يقول كليما “أي إنسان عاش تجربة الاعتقال النازي في طفولته، يتحرك في الحياة بطريقة مختلفة عن الآخرين الذين لم يعرفوا مثل هذا الحدث”، فهو لا يتحدث عن البطولة، بل عن التحول المؤلم الذي يحدثه الرعب في النفس البشرية، عن إنسان يتعلم الصمود لا بالقوة، بل بقبول الهشاشة كجزء من الوجود ذاته.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، يتحول الخوف في نص كليما إلى مرآة للضعف الإنساني، ويولد البقاء من بين أخطاء صغيرة وذكريات لا تشفى.
امتحان الضمير
ويتناول إيفان كليما خلال كتاباته تجربة الصمت الأخلاقي في مواجهة الاستبداد، مستعيداً مواقفه الأولى خلال الحقبة الستالينية، حين انضم إلى الحزب الشيوعي على رغم إدراكه العميق لفساده. ويصف هذا التناقض بوصفه امتحاناً للضمير أكثر منه موقفاً سياسياً، إذ يكشف كيف يصبح الصمت نوعاً من أنواع التواطؤ الجماعي، وتغذيه المخاوف الصغيرة التي تتراكم حتى تصنع شرّاً أعظم. ويقول إنه “لم يصدق أحد في تشيكوسلوفاكيا شهادات العائلة عن جرائم ستالين”، مشيراً بذلك إلى حال الإنكار الجمعي التي تنتجها الأنظمة الشمولية. ومن خلال هذه الرؤية، يصور كليما كيف يمكن للإنسان العادي، بصمته أو تردده، أن يشارك، من حيث لا يدري، في استمرار العنف، ليطرح بذلك سؤالاً فلسفياً حاداً حول حدود البراءة في عالم يسوده الخوف والطاعة.
شتاء براغ
وترسم رواية “لا قديسون ولا ملائكة”، دار التنوير، ترجمة إيمان حرزالله، لوحة نفسية واجتماعية لبراغ ما بعد التحول، وتميز أسلوبه الأدبي في هذه الرواية بالمزج بين الواقعية اليومية والتأملات الفكرية العميقة التي يستمدها من حال براغ ما بعد الثورة المخملية عام 1989، حيث يستكشف كيف يستمر الماضي الشيوعي والنازي في تشكيل حياة الأفراد العاديين، في ديمقراطية جديدة مليئة بالقلق والتحولات.
وتتمحور القصة حول كريستينا، وهي طبيبة أسنان مطلقة في منتصف الأربعينيات، تعاني الوحدة والاكتئاب، وترعى أمها الأرملة المسنة التي تنتمي إلى جيل الناجين من الـ”هولوكوست، بينما تواجه تحديات تربية ابنتها المراهقة جانا التي تتمرد على إرث الأجيال السابقة، في عالم ما بعد الثورة، حيث يتحول الحنين إلى مزيج من الغضب والضياع.
اقرأ المزيد
ميلان كونديرا عاش صراعا بين انتمائه التشيكي والفرنسي
توايين الرسامة التشيكية التي صرخت: إندثري أيتها الحرب
وتتطور الحبكة مع بدء كريستينا علاقة عاطفية مع رجل أصغر منها بـ15 سنة، يعمل محققاً سابقاً في الشرطة الشيوعية، يجلب لها أملاً هشاً وسط مخاوفها، بينما تكتشف أسرار عائلية مؤلمة مثل وجود أخ غير شقيق. وتتخلل السرد تأملات كريستينا في تراث والدها الستاليني المتوفى الذي كان عضواً في الميليشيات الشعبية، من خلال صناديق مليئة بأوراقه وكتبه وخطاباته، مما يبرز موضوع الذاكرة والصدمة التي لا تختفي، بل تشكل الوعي اليومي. وتتناول الرواية محاور فكرية أساسية مثل الفرد تحت القمع الاجتماعي والعائلي.
ويتميز سرده في “لا قديسون ولا ملائكة”، بوجود منظورات عدة، تجمع بين وجهة نظر كريستينا وابنتها، مما يقرب القارئ من التجارب الداخلية عبر المزج لغوياً بين الواقعية والشاعرية والمرارة بالسخرية الهادئة. ويرسم كليما لوحة إنسانية عن الحياة العادية المفعمة بالاستثنائي، محذراً من أن “لا أحد منا قديس أو ملاك”، ومبرزاً كيف يمكن للحب والعلاقات أن يوفرا إنقاذاً جزئياً في عالم مليء بالفقد والتغيير. ومع حرص كليما على استخدام ضمير المتكلم يجعل القارئ يعيش التجربة الداخلية للإنسان المقموع، مما يعزز قرباً عاطفياً وفكرياً بين النص والمتلقي.
إيفان كليما كتب عن الألم من دون أن يتحول إلى ضحية، وعن الحرية من دون أن يسطح معناها. وكان شاهداً على قرن مضطرب وأهوج، وعاش التجربة المأسوية كاملة ثم حوّلها إلى أدب عميق وإنساني، واستمد من الفوضى والجنون رؤية فنية حكيمة ومتفردة، لذا ترجمت كتبه إلى أكثر من 30 لغة، وتدرّس أعماله اليوم في الجامعات الأوروبية والأميركية.
ولعل أكثر ما يمكن أن يصف كليما ويعبر عنه، نجده في كلماته التي توجز رؤيته للحياة في روايته “حب وقمامة”، “لكنني فهمت في ما بعد أن لا شيء أكثر غموضاً، ولا شيء أكثر روعة من الحياة نفسها. وأما من يعلو فوقها، من لا يكون راضياً بالأهوال التي بلغها، وبالعواطف التي عاشها، فلا بد له عاجلاً أو آجلاً من أن يكشف عن كونه غواصاً زائفاً، غواصاً لا يتجاوز في غوصه قبواً صلب البناء، لشدة خوفه مما يمكن أن يكتشفه في الأعماق”.

التعليقات معطلة.