في الوقت الذي يدرس فيه مؤيدو نظام الأسد تحركاتهم المقبلة في سوريا، تزن إيران خياراتها لإرساء موطئ قدم دائم في البلد الذي مزقته الحرب. ولا شك في أن طهران تأمل في تأمين طريقٍ لوجستية موثوقة إلى جنوب لبنان وممارسة ضغوط أكبر على إسرائيل في هضبة الجولان. وبالتالي، تعود إلى الوضع المفضّل لها، ألا وهو “العالم الإسلامي ضدّ الكيان الصهيوني”، كما قال رئيس جهاز المخابرات التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني الجنرال حسين نجات في مقابلة أجراها في 20 تشرين الأول/أكتوبر.
وفي ظل هذه الخلفية، وصل رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري إلى دمشق في 17 تشرين الأول/ أكتوبر في زيارة دامت أربعة أيام التقى خلالها بالرئيس بشار الأسد وناقش العلاقات العسكرية المستقبلية. وقد عُقد الاجتماع بعد يوم من قيام الطائرات الإسرائيلية بضرب موقع سوري لصواريخ “سام-5” الذي أطلق منه صاروخ على إحدى دورياتها الجوية، مما دفع اللواء باقري إلى إدانة “التدخلات الجوية والبرية الإسرائيلية المتكررة” داخل الأراضي السورية واعتبارها غير مقبولة على الاطلاق. وجاءت الزيارة أيضاً بعد أيام من خطاب الرئيس الأمريكي ترامب الذي هاجم فيه السياسة الإيرانية، الأمر الذي أثار تساؤلات حول ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية سترد على الخطاب الأمريكي الأكثر حزماً من خلال اتخاذ إجراءات غير مباشرة في سوريا أو غيرها من المناطق الإقليمية الساخنة. وقد تأخذ هذه الإجراءات أشكالاً عديدة.
إرسال موارد الدفاع الجوي إلى سوريا
بما أنه من غير المرجح على ما يبدو أن تنقل روسيا المزيد من موارد الدفاعات الجوية عالية القيمة إلى سوريا أو حتى إبقائها في البلاد إلى أجل غير مسمى، قد تقرر إيران إرسال أنظمتها الخاصة إلى هناك. ومن المحتمل أن يتخذ ذلك شكل أنظمة الدفاع الجوي القابلة للنقل الجوي التي يمكن استخدامها لمراقبة الأنشطة الجوية الإسرائيلية المستقبلية في سوريا والمناطق المجاورة أو لتصدّيها إذا لزم الأمر. وما قد يزيد احتمال الانتشار الإيراني هي أحدث الإجراءات الإسرائيلية، مثل الضربة الجوية التي شُنّت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر على منطقة صناعية سورية -إيرانية مشتركة في محافظة حمص.
وفي هذا الإطار، يُذكر أنّ سلاح الجو الإسرائيلي قام بضرب أهدافاً في سوريا عدّة مرات على مدى السنوات القليلة الماضية. ولكن نادراً ما كانت تتطلب هذه العمليات دخول الطائرات الإسرائيلية إلى المجال الجوي السوري. فقد كانت تميل إلى إطلاق أسلحتها الموجّهة من الأجواء اللبنانية، تجنباً منها ولو ظاهرياً لأي لبس مع الطائرات الروسية وموارد الدفاع الجوي في سوريا. وعلى الأرجح، سيشمل أي نشر للدفاع الجوي الإيراني وحدات ذات قدرة تنقلية فائقة، والتي إذا استُخدمت بشكلٍ فعال من قبل عاملين متخصصين كفوئين، يمكن أن تُعرّض الطائرات الإسرائيلية في المجال الجوي السوري أو اللبناني للخطر. ومن المؤكد أن تأتي هذه الوحدات من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني مع مشغّليها من “مقر خاتم الأنبياء للدفاع الجوي”. وفي هذا السياق، كشف قائد المقر بالوكالة في 22 تشرين الأول/أكتوبر أن ضبّاط «الحرس الثوري» الإيراني يَشْغلون مناصب رئيسية داخل هذه الوحدات.
ويدير «الحرس الثوري الإسلامي» أيضاً مزيجاً من أنظمة الدفاع الجوي المتنقلة الروسية والمحلية الصنع يصل مداها بين 10 و75 كيلومتراً وفقاً للطراز. وإذا نُشرت هذه الأنظمة في غرب دمشق، ، فإن البطاريات المتنقلة مثل صواريخ أرض-جو المحلية من طراز “صياد ٢” أو “خرداد ٣” التي يصل مداها 75 كيلومتراً، قد تشكّل نظرياً مظلّةً دفاعية جوية على كامل [مرتفعات] الجولان وجنوب لبنان، وصولاً إلى بيروت. وقد تكون هذه الأنظمة أكثر تهديداً للطائرات الإسرائيلية إذا تم دمجها بالشكل المناسب مع أنظمة الكشف والتعقب التي تملكها إيران كما هو معروف، وخاصة إذا كان مشغّلوها كفوئين.
توسيع مدى الوصول غير المتماثل لـ «الحرس الثوري»
خلال تواجده في سوريا زار اللواء باقري مدينة اللاذقية الساحلية، من بين أماكن أخرى، وربما يشير ذلك إلى مصلحة «الحرس الثوري الإسلامي» في إرساء قوارب سريعة وغيرها من الأصول البحرية هناك. ويمكن للقوات الإيرانية أن تشنّ عمليات بحرية سرية من اللاذقية، وبالتعاون مع الوحدات البحرية الخاصة التابعة لـ «حزب الله»، ضد الأصول الإسرائيلية في المنطقة، بما فيها حقول الغاز الطبيعي في البحر. ويمكن القيام بهذه العمليات بالتعاون مع الوحدات البحرية الخاصة التابعة لـ «حزب الله».
وفي هذا الإطار، كرّر «الحرس الثوري الإسلامي» التأكيد على اهتمامه باستخدام غواصات صغيرة مع تكتيكات “جديدة ومفاجئة”. وفي حين لا تتوافر أي معلومات علنية تقريباً عن أنشطة غواصات «الحرس الثوري»، إلّا أنّه نظراً لعقليتهم غير التقليدية بخصوص الأجهزة والتكتيكات، قد تُستخلص بعض الأدلة حول خططهم المحتملة من أمريكا الجنوبية، حيث تًستخدم كارتيلات المخدرات الكولومبية منذ فترة طويلة غواصات صغيرة محلية الصنع ومراكب غاطسة لنقل المخدرات إلى المكسيك. وباستخدام هذه المركبات، تستطيع الكارتيلات نقل ما يصل إلى ثمانية أطنان من البضائع بالإضافة إلى أربعة من أفراد الطاقم إلى مسافة تصل إلى 5,600 كيلومتر، حيث تشرع هذه المركبات في رحلات سرية يمكن أن تستمر لمدة تصل إلى أربعة عشر يوماً ويصعب اكتشافها من الجو.
ومن هنا، يمكن للقوات البحرية الخاصة ووحدات «فيلق القدس» التابعة لـ «الحرس الثوري الإسلامي» أن تتبنّى أساليب مماثلة لتهريب الأسلحة وتسلّل بعض العناصر داخل خليج عدن، وذلك باستخدام عمليات إيران لمكافحة القرصنة في المنطقة كغطاء. ويمكن أيضاً استخدام الغواصات الصغيرة لنقل المستشارين الإيرانيين أو الأسلحة والذخائر الإيرانية عالية القيمة إلى المتمردين الحوثيين في اليمن، ولا سيما أجزاء من أنظمة توجيه الصواريخ وأدوات التعديل والصواريخ المضادة للدبابات وبنادق القنص وأنظمة الدفاع الجوي المحمولة. وإذا كانت إيران تعتزم مواصلة شحنات الأسلحة السرية المشبوهة إلى هؤلاء المتمردين، فإن ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثيون لا يبعُد سوى 3 آلاف كيلومتر عن أقرب قاعدة بحرية تابعة لـ«الحرس الثوري» على الساحل الإيراني. ومؤخراً جداً، في 21 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، ضبط صيادون يمنيون مركبةً إيرانية يُشتبه في أنها كانت تحمل أسلحة للحوثيين.
وبمساعدة إيرانية، يمكن للحوثيين وما تبقّى من المتمردين من القوات البحرية اليمنية القديمة أيضاً أن يقوموا بتصنيع مركبات غاطسة خشبية خاصة بهم يغطّيها زجاج معزول بأقل من ثلاثين يوماً، بإرسالهم نماذج مأهولة وغير مأهولة مع أنظمة اتصالات عبر الأقمار الصناعية ومعدات للملاحة. وإلى جانب فرض الحصار، يمكن أن تشكّل هذه المركبات تهديداً خطيراً لحركة الملاحة البحرية، كما كان عليه الحال في شباط/فبراير عندما أصاب قارب حوثي غير مأهول مليء بالمتفجرات بارجة سعودية وتَسبّب في وقوع خسائر بشرية وماديّة.
بالإضافة إلى ذلك، يستخدم بعض المهرّبين الكولومبيين طوربيدات مجوّفة يمكن أن تحمل ما يصل إلى خمسة أطنان من البضائع، في حين يجري سحبها (قطرها) لغاية 30 متراً تحت سطح الماء و200 متر خلف قوارب صيد غير مثيرة للشكوك. ويكاد يكون من المستحيل كشف هذه الغاطسة من الجو؛ وإذا تم اعتراض قارب السحب (القطر)، يمكن للطاقم ببساطة تحرير الحمولة واستردادها في وقت لاحق باستخدام أجهزة لتحديد الموقع. ويقيناً، تؤدي هذه الطريقة إلى انخفاض كبير في الحمولة مقارنة بسفن الشحن والمراكب الشراعية الصغيرة. حتّى أن الشكل المنُنقبض للغاطسة يحدّ كثيراً من أنواع المعدات التي يمكن تهريبها. بيد، لا يزال هذا السيناريو معقولاً بالنظر إلى أنه يتم إرساء قاربين إلى خمسة قوارب قادرة على القيام بقطر هذه الحمولة في كل قاعدة ومحطة بحرية تابعة لـ «الحرس الثوري» الإيراني.
تحدّي حظر الصواريخ
في 8 تشرين الأول/ أكتوبر، أي قبل أيام قليلة فقط من خطاب الرئيس ترامب بشأن السياسة الإيرانية، حذّر قائد «الحرس الثوري الإسلامي» اللواء محمد علي جعفري من أن الجمهورية الإسلامية ستوسّع برنامجها الصاروخي بوتيرة أسرع إذا أدرجت واشنطن «الحرس الثوري» الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية، مكرّراً تهديداته السابقة ضد القواعد الأمريكية في المنطقة. ومن المرجح أن يعني ذلك بذل جهود متسارعة لتطوير صواريخ بالستية متوسّطة المدى، والتي تشمل عادةً أسلحةً يصل مداها إلى ما بين 3,000 و5,500 كيلومتر. وفي 31 تشرين الأول/ أكتوبر، تبجّح الجعفري بقدرة إيران على زيادة مدى صواريخها لتتجاوز مسافة2,000 كيلومتر، والتي أعلنها ظاهرياً المرشد الأعلى علي خامنئي، بهدف تهديد مجموعة أوسع من المصالح والقواعد الأمريكية. وجاء كشف النقاب مؤخراً عن الصاروخ البالستي الجديد تحت اسم “خرمشهر” ليؤكّد على هذه القدرة، على الرغم من أنّ عمليات الإطلاق التجريبية لهذه المنظومة جاءت إمّا قاصرة جداً عن نطاقها الذي ادُعي أنه يصل الـ2,000 كيلومتر أو فشلت تماماً.
ومن المحتمل أيضاً أن تمتلك طهران قدرةً في مجال بناء الصواريخ البالستية العابرة للقارات. ولكن دون رؤوس حربية نووية، سوف لن تكون لها قيمة رادعة تُذكر. وقد يعني ذلك بطبيعة الحال الانسحاب من الاتفاق النووي، الذي يمكن أن يكون له عواقب دبلوماسية وعسكرية فورية ضدّ إيران. وعلى هذا النحو، من غير المرجح أن يتخذ القادة الإيرانيون هذا المنحى الخطير على المدى القريب، خاصة في ظل غياب تهديد عسكري أمريكي وشيك. وعلى الرغم من ذلك، ذكّر القائد السابق في «الحرس الثوري الإسلامي» والأمين العام الحالي لـ”مجمع تشخيص مصلحة النظام” محسن رضائي زملاءه في 18 تشرين الأول/أكتوبر أنه يتعين عليهم الاستعداد لمواجهة استراتيجية حتمية مع الولايات المتحدة في المستقبل، بهدف تحفيزهم على اتخاذ التدابير بشأن قدرة الصواريخ البالستية العابرة للقارات.
الاستنتاج
لقد ندّدت طهران رسمياً بإلغاء إدارة ترامب للاتفاق النووي واتخاذها موقف أكثر عدوانيةً ضد «الحرس الثوري الإسلامي»، وتعهّدت بمواصلة توسيع برنامجها للصواريخ وانشطتها الإقليمية المثيرة للمشاكل. ولذلك يتعين على الأفراد العسكريين من الولايات المتحدة ودول الحلفاء أن يستعدوا لمواجهة الصواريخ الإيرانية عالية القدرة وربما الأبعد مدى، إذ إنّ حتّى العقوبات الشديدة تبدو غير قادرة على إقناع طهران بوقف البرنامج.
ومن غير المرجح أيضاً أن تغادر إيران ووكلاءها الأجانب الأراضي السورية. وفي الواقع، قد تقرر طهران توطيد وجودها هناك من خلال نشر أنظمة الدفاع الجوي المتنقلة وهيكل أساسي للقيادة والتحكم لتحدي التفوق الجوي الإسرائيلي. وقد تضع هذه التدابير القوات العسكرية الإسرائيلية والإيرانية في مواجهة مباشرة مع احتمال كبير للتصعيد، وهو احتمال ينبغي أن تمنعه الولايات المتحدة بأي ثمن.
وأخيراً، قد تسعى القوات البحرية التابعة لـ«الحرس الثوري الإسلامي» إلى ترسيخ وجودها على سواحل لبنان وسوريا من أجل التصدّي لإسرائيل، أو زيادة جهودها السرية لتزويد الحوثيين باستخدام القوارب أو الغواصات. ولذلك، يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات للتحقق من أنشطة إيران البحرية المشبوهة خارج مياهها في الخليج، ربما من خلال تكييف قدراتها الاستخباراية وقدراتها على المراقبة من أجل التنبّه من التهديدات المحددة المذكورة أعلاه، مع التنسيق بشكل وثيق مع حلفائها الإقليميين.