لم يكن صدفة أن تبني المبدعة العراقية تصاميمها وكأنها “أليس” تقفز عبر المرآة
منظر عام لمبنى “متحف روما لفنون القرن 21” (موقع المتحف)
من المؤكد أننا لم نحاول اللعب على الكلام وخداع القارئ حين نتحدث عن تلك “الرسامة الشابة” التي نزعم في عنوان هذا المقال أنها كانت هي وراء اختيار العمرانية الراحلة والفنانة الكبيرة #زها_حديد، لتحقيق العدد الأكبر من تصاميم #المتاحف و#المكتبات والصالات الفنية الكبيرة في عدد من أهم مدن العالم من “كانتون” في الصين إلى بعض الولايات الأميركية مروراً ببلدان عربية، ولا سيما مدن خليجية، أدركت كلها القيمة الفنية المطلقة لما تنجزه تلك المبدعة “البريطانية” من أصل عراقي كانت لا تكف عن إعلان افتخارها به، كما افتخارها بصباها الذي أمضته فنانة وطالبة جامعية في بيروت قبل أن تعيش انطلاقتها العالمية التي أوصلتها إلى نيل جائزة “بريتزكر” التي تعتبر “نوبل الفنون العمرانية”، والتي لم يفز بها أي عمراني من الشرق الأوسط ولم تعط لأية عمرانية امرأة لا من قبل زها ولا من بعدها، وإلى أن تصبح من أشهر عمرانيي العالم قبل رحيلها المبكر عن 60 سنة. ولعل القارئ النبيه قد أدرك أن “الرسامة الشابة” لم تكن سوى زها حديد نفسها. أما المهتم المطلع على إنجازات هذه المبدعة الكبيرة فلربما أدرك من ناحيته العلاقة بين رسوم زها حديد حين كانت شابة ومنجزاتها العمرانية التي كرستها كمهندسة تتعامل مع مشاريعها تعامل الرسام مع لوحته.
مشهد لإحدى قاعات “متحف روما لفنون القرن 21” من الداخل (موقع المتحف)
العمرانية العالمية “الأولى”
صحيح أن هناك بين كبار المعماريين في العالم من زاوجوا بين الرسم والهندسة العمرانية، ويخبرنا تاريخ الرسم ولا سيما في عصر النهضة في ألمانيا وإيطاليا خصوصاً أن كبار الرسامين كانوا من بناة الصروح العمرانية (مايكل أنجلو مثلاً، أو ليوناردو دا فينشي من دون أن ننسى دورر) غير أن حالة زها حديد تختلف، أولاً لأن هذه المزاوجة لم تعد واردة في الأزمنة الحديثة، كما أن الفنان حتى حين ينتقل من الرسم إلى الهندسة أو بالعكس لا يعود واسع الاهتمام بممارسة الإبداع الثاني، ثم إن زها امرأة، ولم تجر العادة على مثل هذا التنقل بين النساء مهما بلغت قوة التعبير وتوسع المخيلة لديهن، أما بالنسبة إلى فنانتنا العراقية، ففي نهاية الأمر لن يكون من المبالغة القول إن ثمة وحدة أسلوبية وخطوطاً واضحة بين الفنين اللذين ظلت تمارسهما معاً حتى سنواتها الأخيرة على رغم كثرة وضخامة مشاريعها العمرانية. ويقيناً أنها بدت دائماً وكأن تصميماتها هي نوع من الامتداد للوحات صباها بل حتى للوحاتها التي ظلت ترسمها وتعرضها في مختلف مراحل حياتها. والحقيقة أن المرء إن تأمل في تصاميم زها حديد الكبرى سيشعر كما لو أنها مجرد تكبير للأشكال التي ما برحت تجعلها مواضيع لوحاتها.
من اللوحات إلى الصروح
ومن هنا، لا بد من أن نجد في ذلك الربط بين لوحاتها وما تشيده نوعاً من التواصل الذي يعطي الفنين لديها وحدة عضوية لا بد من التوقف عندها متأملين. وربما تكمن الرغبة في هذا التوقف في ما أشرنا إليه أول هذا الكلام في “حتمية” تفوق زها حديد على العدد الأكبر من العمرانيين الذين تخوض مباريات الحصول على مشاريع في وجههم، من خلال ربط أصحاب القرار النهائي للتصميمات التي تقترح وتخوض بها تلك المباريات، بما يعرفونه من لوحات معارضها. ولا سيما إن كان التباري يتعلق بصروح لها علاقة مباشرة بالفن والأدب والشؤون الثقافية عموماً. ولا يتسع المجال هنا لتعداد الأبنية ذات الطابع الفني التي نفذتها زها حديد، ولكن في مقدورنا بقدر كبير من الثقة أن نقول إن نسبة الأبنية الثقافية إلى مجمل إنجازاتها الكبرى تفوق ما لدى أي عمراني آخر من زملائها الذين، خلال العقود الأخيرة بل حتى طوال القرن العشرين، بدلوا من طوبوغرافية المدن ومن مفهوم العمران ومن وظيفة الصرح في المدينة بحيث تضافروا جميعاً لجعل المدن أشبه بمتاحف تنقل الفنون من داخل الصالات والبيوت والمؤسسات إلى الساحات والشوارع بشكل لا سابق له. والحقيقة أننا ما أسهبنا في هذه المقدمة إلا من أجل الحديث عن واحد من أهم مشاريع زها حديد (1950 – 2016) في هذا المجال، وهو مشروع من اللافت أنه لا يذكر بما فيه الكفاية مع أنه يكاد وحده يؤكد مزاوجة زها حديد الخلاقة بين الرسم والعمران شكلاً ومضموناً، ونتحدث هنا عن “المتحف الوطني لفنون القرن الحادي والعشرين” MAXXI الذي نفذته الفنانة في روما بين العامين 1998 و2010.
لحظة مفصلية
والحقيقة أن معظم الذين تناولوا بالتحليل والتعليق على هذا المشروع اعتبروه نقطة مفصلية في مسار حديد، إذ نجدها تعود في اندفاعة لافتة إلى بداياتها التشكيلية ممهدة لهذا التوق الفني الخالص الذي ميزها، جاعلاً من المباني التي تنجزها منذ ذلك الحين نوعاً من التوسع في استلهام الأشكال التي كانت تملأ لوحاتها، في تعبير عن توق مبكر لديها في التحول إلى عمرانية يرتبط عملها بأشكال هندسية وخطوط مدينية. وهذا ما تجلى بخاصة في المتحف الروماني الذي تكفي نظرة إليه ملتقطة من الفضاء الذي يعلوه ليكتشف المرء كم أن حديد عرفت كيف تدمجه تماماً في الفضاء المديني، الذي لم تكن مستاءة على أية حال من الاضطرار إلى حصر المبنى في تلك المساحة الواقعة بين أحياء سكنية وصناعية بالكاد تحتوي على فراغ غير مستخدم، كمصانع ومستودعات من النوع الذي يعطي المكان بعده المديني هذا. ومن الواضح في هذا الإطار أن مبنى المتحف، من دون أن يندمج عضوياً في المكان الذي بني فيه، راح يبدو ـ كجزء على حدة منه، متداخلاً فيه وإن باختلاف في لون جدرانه، إذ من جديد عادت الفنانة لتركز على ألوان شاحبة فاتحة تتناقض منطقياً مع لون المباني المحيطة والمتراوحة بين درجات الألوان القرميدية. وهكذا، إذ ميزت العمرانية المكان بشكل يحمل توقيعها، بات عليها أن تهتم بالفضاءات الداخلية على امتداد مساحة مدهشة بالنسبة إلى قاعات وظيفتها أن تقدم معروضات، لكن الفنانة عرفت كيف تجعل الأجنحة والقاعات في حد ذاتها محط الفرجة الأساسية.
“أليس” ومرآتها وبلاد العجائب
فحديد استغلت الحرية المعطاة لها من قبل المقررين، والمساحات الواسعة التي وجدتها قادرة على تقسيمها بحسب حلمها الفني الكبير، فلم تتردد في التعامل مع المشروع كله بشكل يجعل الزائر يشعر وكأنه تسلل إلى داخل لوحة فنية كما قد يفعل مشاهد للوحة عملاقة بدت له أول الأمر سهلة في تعبيرها عن عالم بدا له أليفاً، ثم إذ دخل إليه بالفعل وجده حافلاً بالتعقيدات والزوايا والأسرار التي توجد عادة داخل المدينة وفي خيال بانيها. ولا شك أن هذا الشعور إنما كان هو بالتحديد ما أرادت الفنانة بثه، مؤكدة مرة أخرى، وبشكل قاطع ومفصلي، من ناحية على مدينيتها، أي علاقتها الخاصة بالمدينة وبأبعد كثيراً مما يربط العمران نفسه عادة بالمدينة، ومن ناحية ثانية على حلم قديم لديها يقوم في إحياء قفزة “أليس” عبر المرآة إلى داخل “بلاد العجائب”. ومن هنا يخرج هذا المشروع عن وظائفيته إلى حد ليصبح هو نفسه الوظيفة، بل “الفرجة” كما أشرنا.
ونعرف طبعاً أن هذا البعد سوف يسود منذ ذلك الإنجاز في عوالم زها حديد ولكن ليس لديها فقط، بل لدى كثر من عمرانيي الحداثة الذين، كما حال كالا ترابا الإسباني الذي تبدو مشاريعه وكأنها الأقرب إلى مشاريع حديد، أي كأنها لوحات فنية ضخمة، أو منحوتات عملاقة مزروعة في الساحات، محولة المدن نفسها إلى ذلك العالم الخيالي المرتبط بـ”أليس” وقفزتها. وبعد هذا، من المؤكد هنا أن المحتوى والمحتوي يتضافران معاً لخلق وظيفة جمالية للمباني التي ستبدو هنا في نهاية الأمر تحقيقاً لأحلام فنية عمرانية – مدينية تنتمي إلى أحلام من معدن وأسمنت وألوان يحملها هؤلاء المبدعون في خيالهم ثم في تصميماتهم، ففي المباني، وقد أنجزت كلما أتاح أصحاب القرار إمكانية ذلك، بصرف النظر عن الكلفة الباهظة، مادياً ومعنوياً لذلك كله.