د. عبد الغني الكندي
إسرائيل كأي مجتمع إنساني معقد يضم مجموعة من العقلاء والمتطرفين. والشروط الموضوعية الداخلية والخارجية هي ما تحدد أي فصيل جماعي يصل إلى الحكم، ويفرض أجندته السياسية. وإن كان اليمين المتطرف غير العقلاني هيمن على المشهد السياسي الإسرائيلي لفترات طويلة بشعارات رفض حل الدولتين، وتهميش القضية الفلسطينية، فإن هذا الأمر لا يعني بالضرورة غياب أي أصوات عقلانية داخل إسرائيل ينسجم مشروعها السياسي مع هذا الحل، ويبدي تعاطفاً واضحاً مع القضية الفلسطينية. وكما أشرت في مقالي السابق عن حرب غزة، فإن أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لم تكن إلا نتيجة حتمية لهيمنة العقلية الصفرية بين طرفي الصراع الإسرائيلي – الحمساوي؛ حيث يؤمن كِلا اللاعبين بأن الحرب هي حرب وجود وإفناء كامل للآخر، لا صراع حدود، وإن كان نتنياهو وائتلافه العنصري يتحمل المسؤولية الكبرى في أطول احتلال دموي يشهده العالم الحديث.
هذا الاحتلال الممتد لأكثر من نصف قرن، وهو الأكثر تعقيداً من بين كل صراعات العصر الحديث، يدخل فيه الفاعل اليميني الإسرائيلي والفلسطيني برأسمال نفسي وعقائدي وتاريخي لتفسير أي مناوشات عسكرية؛ فالذاكرة الجماعية الإسرائيلية التي تسترجع بشكل اعتباطي لا واعٍ مخاوف الهولوكوست عند أي اقتتال مع العناصر الفلسطينية، يقابلها تذكُّر العقل الفلسطيني والعربي لعمليات التهجير والمجازر الإسرائيلية ضد السكان الأصليين في فلسطين والمناطق العربية. ويتداخل مع هذا الجانب النفسي استحقاقات عقائدية وتاريخية تشرعن لكل طرف تهميش فكرة التعايش السلمي، ورفض إبرام الصفقات الثنائية بمرجعية إنسانية وعقلانية مشتركة بدلاً من الدوغمائية السياسية. وهذا النمط من التفكير الصلب سيقود لا محالة إلى مناهضة الحوارات المرنة التي ترتكز على المعادلة التعاونية المربحة لكلا الجانبين، بدلاً من المعادلة الصفرية التي لا يربح فيها أي طرف الصراع إلا بسحق وإفناء الآخر بالضرورة.
ولأن السياسة الخارجية السعودية دائماً ما تتبنى نمط التفكير التعاوني وتبنِّي الإجراءات الدبلوماسية لحل الصراعات الدولية، فقد بادرت المملكة في 26 سبتمبر (أيلول) من عام 2024 بتشكيل تحالف عالمي متخصص في السعي لحل الدولتين يضم ممثلي 90 دولة. وباستثناء الإدارة الأميركية الحالية، وحكومة نتنياهو المتطرفة، حصد هذا التحالف تأييد ومساندة كل دول العالم بما في ذلك الأعضاء الدائمون بمجلس الأمن، والهند وألمانيا واليابان، فضلاً عن اتساق هذا التحالف مع قرارات الشرعية الدولية، ومواثيق الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن هذه الدبلوماسية السعودية قد تسهم في كشف التعنت والصلف الإسرائيلي اليميني في تبنِّي السلام خياراً استراتيجياً لأزمات المنطقة، فإن هذا المجهود الدبلوماسي السعودي في التركيز على الجانب الدولي لم يرافقه تركيز من الدول العربية المطبعة في احتواء الأصوات العقلانية من الداخل الإسرائيلي التي تتبنى مقايضة حل الدولتين مقابل التطبيع.
فمن الخطأ تصوير المجتمع الإسرائيلي بأنه كتلة واحدة صماء وساكنة، ومعادٍ كله للحقوق الفلسطينية والعربية، فالداخل الإسرائيلي كأي مجتمع طبيعي يعج بالتناقضات الإنسانية والمصالح المتعارضة، وبالتالي لن تكون كل فئاته الاجتماعية ضد مشروع حل الدولتين وخيار السلام الاستراتيجي؛ فواقع تركيبة المجتمع الإسرائيلي يبين أن ثمة طيفاً واسعاً من التيار الإسرائيلي العقلاني الذي يحمل أجندة سياسية أكثر انفتاحاً ومرونة في التعاطي مع القضية الفلسطينية والعربية، ويعلو صوته ويخفت وفق تعقيدات الظروف الداخلية والخارجية، فالمكون العربي في المجتمع الإسرائيلي يشكل 21 في المائة، وغالبيته العظمى مع حل الدولتين، بل إن بعض كبار الساسة الإسرائيليين كانوا مع هذا المشروع كرئيسَي الوزراء إيهود أولمرت، وإيهود باراك. ففي حين صرح الأول لجريدة «بوليتيكو» 2023 بأن «حل الدولتين هو الحل السياسي الحقيقي الوحيد لهذا الصراع المستمر مدى الحياة»، أشار الأخير في «CBC» إلى أن «حل الدولتين يجب أن يظل هدف الحكومة الإسرائيلية». وذهب رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) عامي أيالون أبعد من ذلك؛ إذ أشار في صحيفة «الغارديان» في عام 2024 إلى أن «إسرائيل لن تتمتع بالأمن حتى يكون للفلسطينيين دولتهم الخاصة». وأكد في مقابلة تلفزيونية بقناة «الجزيرة» أنه «لو كان فلسطينياً أو غزاوياً لاتخذ ما بوسعه ضد إسرائيل لينال حريته، وأن بن غفير وسموتريتش إرهابيان، ويمثلان أقلية متطرفة، وأكسبهما التحالف مع نتنياهو قوة ونفوذاً». هذا التصور يشاركه فيه تيار واسع من اليسار الإسرائيلي ممثلاً في حزب «ميرتس»، وحركات الشبيبة، وغيرها من الحركات الاجتماعية الإسرائيلية والنخب الثقافية التي تتبنى حل الدولتين والانسحاب من معظم مناطق الضفة الغربية وغزة والجولان. وخارج إسرائيل، ومن داخل أميركا كتب ما يقارب 27 من القادة اليهود الأميركيين في 14 من ديسمبر (كانون الأول) لعام 2023 رسالة إلى الرئيس بايدن يطالبونه فيها بضرورة أن يكون ثمة التزام أميركي ثابت بالسعي إلى وجود دولتين لشعبين، ومن هؤلاء القادة رؤساء سابقون لمنظمة «إيباك» التي هي أكثر تأثيراً في السياسة الخارجية الأميركية، والوكالة اليهودية لإسرائيل، والاتحادات اليهودية في أميركا الشمالية، وغيرها من المنظمات السياسية اليهودية النشطة والمؤثرة بالسياسات الأميركية.
وقد كان الخطاب السياسي لهذا التيار اليهودي الأميركي المعتدل متسقاً مع الأصوات العقلانية بالداخل الإسرائيلي، حيث كان يؤيد حل الدولتين في سبتمبر 2020، نسبة 42 في المائة من اليهود الإسرائيليين، وتراجعت إلى 21 في المائة؛ أي الهبوط إلى ما يقارب النصف، بعد أحداث السابع من أكتوبر وفقاً لاستطلاعات الرأي لجامعة تل أبيب، بل كانت نسبة تأييد حل الدولتين من الإسرائيليين في عام 2013 تصل إلى 52 في المائة وفق استطلاع آخر للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» الأميركية. ودلالة هذه الاتجاهات السياسية المتباينة نحو إنشاء دولة فلسطينية هي أن صوت الرأي العام الإسرائيلي غير ثابت ونهائي، بل يتغير طبقاً للأحداث الداخلية والخارجية. وكان من الطبيعي أن يخفت هذا الصوت العقلاني والمعتدل؛ لأن الأطراف المتفاعلة في ملف السابع من أكتوبر هم من تيارات المعادلة الصفرية التي لا تؤمن بالحلول الدبلوماسية، بالإضافة إلى افتقار الصوت العقلاني في إسرائيل لأي حاضنة إقليمية من دول التطبيع التي كان ينبغي لها أن تتبنى هذا الطرح السياسي، وتعمل على تسويقه إقليمياً ودولياً.
وقد كانت الفرصة مواتية للدول المطبعة مع إسرائيل بأن تحتضن رواد هذا الطرح العقلاني الإسرائيلي، والتسويق له في حملة علاقات عامة ودبلوماسية شعبية تستهدف النخب السياسية والفكرية عبر العالم، وإبراز هذا الطرح العقلاني المتواري عن الأضواء مقابل الأصوات اليمينية المتطرفة لحكومة نتنياهو الائتلافية الرافضة لمشروع حل الدولتين. وكان من الممكن لهذا التكتل السياسي لهذه الأصوات المعتدلة أن يكون رافداً ومعززاً للدبلوماسية السعودية الدولية التي حملت على عاتقها مشروع حل الدولتين مقابل التطبيع، وذلك بعد التنازلات التي قدمتها بعض الدول العربية في التطبيع مع الكيان الإسرائيلي دون ثمن حقيقي ينعكس على الوضع الداخلي الفلسطيني، وتحميل هذا الرهان السياسي والمقايضة الثقيلة على عاتق دبلوماسية المملكة وحدها.
وبكل تأكيد، نجاح الدبلوماسية الشعبية، واحتواء أصحاب مشروع الخطاب العقلاني من الداخل الإسرائيلي، مشروطان أيضاً بمعالجة حالة الانقسام الفلسطيني، وتهميش الخطاب المتطرف فيها، عبر إبراز الأصوات الفلسطينية العقلانية والمعتدلة التي لا تتبنى أطروحات الصراع الوجودي مع إسرائيل، وتزييف الوعي الإسلامي بانتصارات وهمية، ووعود زائفة ومضللة. وهذا الأمر يعني ضرورة التعاطي مع الملف الفلسطيني من منطلقات خطاب سياسي براغماتي يتعاطى مع تعقيدات الأوضاع الإقليمية وواقع موازين القوى الدولية بصورته التجريبية الفعلية، كما هو الحال مع جهود الدبلوماسية السعودية في حل الدولتين، بعيداً عن التفكير الرغبوي الذي ينتجه خطاب وعظي متشنج يتلاعب بالنص الديني لتخدير العقول وبث الأوهام. فالنبوءات الخرافية التي وُظِّف فيها النص القرآني عطَّلت كثيراً من استغلال كل هوامش الحلول الدبلوماسية المتاحة، وأفسدت قراءة المشهد السياسي بطريقة موضوعية، فضلاً عن الإساءة للنص الديني ذاته. فوفق حساباته القرآنية الخاصة، توقع الزنداني انهيار الغرب وإسرائيل في عام 2014. وبنفس آلية التفكير والتحليل الميتافيزيقي، وظَّف الشيخ الفلسطيني الجرار النص الديني ليكشف للعقل الإسلامي نبوءة انهيار إسرائيل في عام 2022، وهو نفس المنهج الحسابي القرآني الذي ارتكز عليه الشيخ أحمد ياسين ليبشر العالم الإسلامي بمستقبل أفول دولة إسرائيل في عام 2027، وغيرهم الكثير من الذين يستدلون على الواقع السياسي وبناء الحجة عبر تحريف النص عن مواضعه الأصلية ودمجه في مغالطات التفكير بالتمني. وكانت تكلفة هذا الخطاب التعبوي والخرافي غير مدفوع الثمن، ومنهجية التفكير الفانتازي واللاعقلاني، سفك دماء الملايين من الأبرياء، وسقوط دولهم، في الوقت الذي ما زالت فيه إسرائيل باقية وتتمدد ولم تَنْهَرْ أو تسقط.
وفي حقيقة الأمر، فإن الحكومة الائتلافية المتطرفة لنتنياهو لن تسقط بآليات التفكير بالتمني، أو باستخدام القوة العسكرية غير المتكافئة، أو بانفراد إيران بمشروع حل الدولة الواحدة، بقدر ما تزول بتبنِّي مبادرة حل الدولتين، واحتواء الطيف الواسع من الأصوات اليهودية المعتدلة التي تميل إلى مساندة هذا التوجه السياسي سواء من داخل إسرائيل أو من خارجها؛ فالسلام العقلاني ونمط التفكير التعاوني والاحتوائي، بدلاً من الحروب غير العقلانية ونمط التفكير الصفري والإقصائي، هو فن الممكن بالسياسة، وهو الخيار الاستراتيجي لازدهار هذه المنطقة اقتصادياً، وتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي، وكما تقول الحكمة: «عدو عاقل خير من صديق جاهل».