الحواجز الإسمنتية أو الكتل الكونكريتية أو “الصبّات” لم تجزّئ مدينة بغداد فحسب، بل فرّقت أهلها بعضهم عن بعض، مصنّفة إياهم جماعات متمايزة. اليوم، كثر راحوا يعيدون اكتشاف العاصمة أو يتعرفون إليها.
تمكّن العراقيون أخيراً من التجوّل بـ”حرية” في عاصمتهم بغداد، بعدما أزيلت الحواجز الإسمنتية أو “الكونكريتية” أو “الصبّات” بحسب ما يطلق عليها في العراق. فتلك الحواجز بمختلف أحجامها، قيّدت حركتهم وعزلت كلّ مكوّن منهم عن سواه، بعدما فصلت شوارع وأحياء مدينة واحدة بعضها عن بعض، على مدى أكثر من عقد ونصف العقد، أي منذ الغزو الأميركي للبلاد عام 2003.
في ذلك الحين، شدّد الاحتلال الأميركي على فائدة تلك الكتل الإسمنتية الضخمة، ولا سيما أهميتها في ما يتعلّق بحماية المواطنين من الاعتداءات الإرهابية. لكنها بحسب ما يؤكد مراقبون ومسؤولون محليون، خلّفت آثاراً اجتماعية سلبيّة بين سكان المدينة، قد تكون إزالتها صعبة. هي عمّقت الفصل ببغداد ما بين المسلمين السنّة والمسلمين الشيعة والمسيحيين، بينما تعمل اليوم منظمات من المجتمع المدني على رتق النسيج الاجتماعي الذي عبثت به الأيادي الأجنبية والإرهاب.
بعد تفاقم العزل الاجتماعي في بغداد وكذلك تعاظم أزمة المرور فيها، أوعز رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي بعد تسلّمه منصبه بفتح الشوارع المغلقة منذ عام 2003 بمعظمها، بالإضافة إلى رفع الحواجز الإسمنتية. وجاء في بيانه الرسمي، أنّ “رفع الكتل الكونكريتية من شوارع العاصمة لا يقتصر على تخفيف الزحام المروري فقط، بل هو إجراء لعودة الحياة الطبيعية كما كانت في العاصمة بغداد”، مؤكداً بذلك أنّ الحياة الاجتماعية لم تكن طبيعية في خلال السنوات الماضية.
حواجز إسمنتية ترفع من أحد شوارع العاصمة (وسام زيد محمد/ الأناضول)
وراحت “أمانة بغداد”، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن جمالية العاصمة ونظافتها، ترفع تلك الحواجز من شوارع جانبَي الكرخ والرصافة. وتمكّنت من رفع آلاف من أحياء المنصور والبياع والشعلة، وكرادة مريم والقادسية والعدل والكرادة، بالإضافة إلى تفكيك أكثر نقاط التفتيش إرهاقاً للمواطنين مثل علوة الشعلة وجامع أم القرى، وفتح شارعَي المركز وجامع الفاروق في الحرية ودور نواب الضباط، فضلاً عن شارع الرشيد أقدم شوارع العاصمة وعنوانها الأثري.
يقدَّر عدد الحواجز الإسمنتية التي أزيلت منذ تولّي عبد المهدي منصبه السلطة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، بأكثر من 10 آلاف، في حين يشير مسؤول عراقي بارز في بغداد، فضّل عدم الكشف عن هويته لـ”العربي الجديد”، أنّ “ثمة 10 آلاف حاجز تقريباً تستلزم الإزالة، والخطّة تقضي برفعها من بغداد ونقلها إلى الحدود مع سورية، حيث مكانها الطبيعي”. ويؤكد أنّ تلك الحواجز “سوف تكون نافعة هناك ولا مكان لها في داخل بغداد”.
وتلك الحواجز التي لطالما شغلت المسؤولين المحليين، تؤكد فرح الساعدي وهي مسؤولة محلية في بغداد، لـ”العربي الجديد”، أنها “أتعبت سكان العاصمة، ولم تكن مطالبات المسؤولين المحليين بتقليص عددها ذات أهمية للحكومة الاتحادية. فهي لا تُعَدّ شأناً محلياً بل تقع في إطار اختصاص الحكومة ووزارة الداخلية وقيادة عمليات بغداد”. وتشير الساعدي إلى أنّ مجلس محافظة بغداد كذلك، لم يكن قادراً على إصدار قرارات بوقف عمل عدد من حواجز التفتيش، التي تكلّف المواطنين أموالاً كثيرة، مؤكدة أنّ “وعود رؤساء الحكومات العراقية المتلاحقة برفعها كانت كثيرة، لكن من دون جدوى”. أما بالنسبة إلى الأثر الاجتماعي الذي خلفته الحواجز الإسمنتية، فتقول إنها “واضحة، وثمّة جيل كامل في بغداد لا يعرف شيئاً عن مدينته”. وتشرح الساعدي أنّ “أعمار المولودين عام 2000 صارت اليوم 19 عاماً تقريباً، وهم لا يعرفون ماذا يوجد خلف الأسوار والحواجز الإسمنتية. فشباب مدينة الثورة لا يعرفون جيداً ماذا يوجد خلف الصبّات في منطقة الأعظمية، كذلك الحال بالنسبة إلى شباب حيّ الجادرية الممتلئة بالكتل. هؤلاء لا يعرفون ما يحوي حيّهم من جمال، ولا حيّ الكرادة المجاور الذي يضمّ أكبر عدد من الكتل الكونكريتية في بغداد، بسبب انتشار مخازن أسلحة بعض فصائل الحشد الشعبي ومقارّ للأحزاب الإسلامية”.