شخصيات سردية تمثل العلاقات الإنسانية في عالم مفعم بالصراعات والشرور
الصداقة الملتبسة في الروايات (سوشيل ميديا)
تكاد علاقة الصداقة في عالم الأدب بالتوازي مع فكرة الحب؛ أن تُشكل صلة أخرى ثنائية الوجود، تُعتبر من أكثر المحاور الجاذبة للاهتمام عند الكُتاب والقراء. إنها من العلاقات المطروحة إبداعياً في معظم الروايات، بل هناك روايات تقوم فكرتها على صلات المودة والإخاء أو التنافس والغيرة بين الأبطال، ويغيب عنها الوله العاطفي، أو يبدو مجرد ظل جانبي.
قديماً، قال أعرابي لصديقه: “كن ببعضك لي، أكُن بكلي لك”؛ فالصداقة صلة عميقة، اختيارية تماماً مبنية على المشاعر، فيها تقدير متبادل، ولا يتم تبريرها برابطة الدم، بل على النقيض من الروابط العائلية المفروضة، يختار الأصدقاء بعضهم بعضاً، ويقضون وقتاً معاً لأنهم يستمتعون بوجودهم سوياً، وهذا يلتقي مع المفهوم الأرسطي للصداقة القائم على وجود “روح واحدة في جَسَدَيْ توأمٍ”.
رواية الصداقة المحفوظية (دار الشروق)
ولأن هذه الرفقة الروحية غالباً ما تترسخ مع تقادم الزمن، أي أن اختبار معدن التواصل بين اثنين لا يُمكن امتحانه إلا بالقدرة على تجاوز صعاب الأيام، فإن مفهوم الصداقة المرجو يتطابق مع رؤية نيتشه: ” يتوحد الأصدقاء في ثلاثة أشياء: إخوة في الضرورة، سواء أمام العدو، أحرار أمام الموت”. وكما يختبر الزمن صلابة الصداقة الحقيقية، فإنه يقضي على الصداقات الهشة، التي تنهار بسرعة أمام امتحانات الأيام وإغراءات الحياة.
رواية جار النبي حلو (دار االهلال)
في روايته ” العجوزان”، يقدم الكاتب المصري جار النبي الحلو علاقة صداقة حقيقية بين رجلين عجوزين يسكنان في العمارة ذاتها. العجوز الراوي وصديقه فايز، يعيشان عمراً طويلاً في صداقة تمتد زمناً، وتحفر ذكريات، يكتبها صاحب “طعم القرنفل”، بسلاسة سردية متناهية، راصداً لتفاصيل مألوفة وحميمية كي تُبين التآلف والاختلاف بين الصديقين، يقول: “أنا رفيق عمره، التقينا في المدرسة الثانوية، كنت ألعب الكرة، وكان يحفظ قصائد صلاح عبدالصبور، كنت أحب السينما وعبدالحليم حافظ وهند رستم، وكان يفكر بجدية كيف نشأ هذا الكون…ولم أتصور أبداً أنني سأنزل يوماً للسوق في سن الستين لأشتري السمك والطماطم والجرجير، لرفيق عمري العجوز، الذي يعيش وحيداً في الطابق الرابع”.
صداقة ملتبسة
الكتابة عن علاقة صداقة، في الرواية، لا يخلو من فخاخ الوقوع في الرتابة، أو تقديم صلة واهية تنمحي من ذهن القارئ فور انتهائه من القراءة، لذا ينبغي توافر طرق سردية ممتعة ومختلفة لتعميق الصداقة عند تناولها إبداعياً، وهذا لا يعني بالضرورة أن الصداقة دائماً نقية وخالية من ظلال الشكوك وشوائب القلق، بل إن الصداقة الغائمة، الملتبسة والناقصة تبدو في كثير من الأعمال الإبداعية أكثر جذباً للقراء من تلك المثالية. وتظل جملة يوليوس قيصر “حتى أنت يا بروتوس”، حين تلقى الطعنة في ظهره، والتفت، كي يجد صديقه الأقرب بروتوس، أكثر جملة تاريخية أصبحت وصفاً لكل خائن. أما بروتوس فقد برر خيانته بجملة هزلية قائلاً: “لقد قتلت قيصر ليس لقلَة حبي له، بل لأني أحب روما أكثر”.
رواية بدرية البشر (دارالساقي)
تحضر خيانة الأصدقاء في رواية نجيب محفوظ “اللص والكلاب”، التي تبدأ بحدث خروج “سعيد مهران” من السجن، مع مونولوج داخلي يُعبر فيه عن رغبته في الانتقام من عليش، الذي خانه، بأن سرق ماله وزوجته، وتسبب في سجنه، سرعان ما يتكشف للقارئ، أن عليش صبيه وصديقه الذي كان يعمل لديه، غدر به وتسبب في سجنه. تمضي الأحداث في الرواية لنقف أمام خيانة أخرى، حين يلجأ سعيد مهران إلى رؤوف علوان صديقه القديم من أيام الدراسة والذي أصبح صحافياً انتهازياً. يقرر علوان في سره عدم اللقاء مع سعيد مرة أخرى، لأن العلاقة معه غير مجدية. هذا التخلي، يفضي إلى اتساع دائرة الانتقام التي تتسع في قلب سعيد مهران كي تطاول رؤوف أيضاً.
الصداقة بتشعباتها، تحضر في معظم الروايات المحفوظية، كما في “الكرنك” مع مجموعة من الطلاب الجامعيين، الذين يتم اعتقالهم لأسباب سياسية، نتيجة وشاية ربما يكون قام بها أحد الأصدقاء، أيضاً في رواية “ثرثرة فوق النيل”، مع رواد العوامة في صداقة ليلية تربطهم جميعاً.
رواية حنان الشيخ (دار الآداب)
في رواية “ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، نجد علاقة صداقة متينة بين البطل الراوي خالد بن طوبال وهو رسام جزائري في الخمسين من عمره، وصديقه المناضل الفلسطيني الثلاثيني زياد الخليل؛ هما صديقان يشتركان في رؤيتهما الفكرية والنضالية، لكن بذور المنافسة والغيرة تُلقى بينهما بعد ظهور حياة، بطلة الرواية، فتاة جميلة في الخامسة والعشرين من عمرها، يقع خالد في هواها، وفي الوقت نفسه يساوره شك في علاقتها مع صديقه المقرب زياد. منح هذا الالتباس الرواية حيوية اشتباك وصراع المشاعر الإنسانية، من دون انحياز كاشف لزوال هذه الصداقة أو اكتمالها، فقد ظلت علاقة حياة مع زياد في دائرة رمادية غامضة.
شخصيات متباينة
ثمة نموذج شائع في الأدب يتعلق بالصداقة التي يُكمل فيها أحد الطرفين الآخر، ويقدم كل منهما للآخر ما ينقصه. مثلاً الشخصية ذات الطابع المرح يمكن أن تُضيف لمسة من الدعابة عندما تكون الأجواء السردية ثقيلة أو متوترة.
رواية مي التلمساني (دار الشروق)
في رواية “بكارة” للحبيب السالمي، اختار الكاتب أن يجمع بين صديقين هما البشير مصطفى، مصطفى غير متعلم ولا يفهم بالسياسة، بينما البشير درس في الجامعة ويشغله ما يحدث في تونس وفي العالم من أخبار وصراعات. يختبر الكاتب صداقتهما حكاية رمزية تدور حول ليلة زفاف البشير، إثر تسرب إشاعة حوله بأنه لم يتمكن من مباشرة زوجته مبروكة، وأن من قام بهذا الدور هو صديقه مصطفى، الذي اختاره وزيراً له. تغوص الرواية عميقاً في الصراع النفسي بين الصديقين، من دون أن يتمكن أحدهما من هدر صداقته مع الآخر على رغم كل ما يقال عنهما وما عكر صفو علاقتهما، لكن يظل بينهما كثير من الأسرار القديمة، لنقرأ: “البشير يسير في المقدمة بخطى واسعة ويتبعه مصطفى. قطعا مسافة طويلة من دون توقف. بدأ مصطفى يحس بالتعب حين ابتعدا عن الدوار، بيد أنه لم يتبرم، خوفاً من أن يضايق البشير، الذي كان مستغرقاً في التفكير. الشيء الوحيد الذي أشار إليه بسرعة هو أن البرد أشد وطأة في تلك الأراضي البعيدة. وفي طريق العودة إلى الدوار، يتوقف البشير فجأة ويسأل مصطفى: ما معنى الديمقراطية؟ لا يدري لماذا طرح عليه السؤال. فقد كان على يقين أنه لا يعرف الإجابة”.
محور الأمان
يؤدي حضور الصديق في الرواية دوراً سردياً مهماً، من الجانب الاجتماعي والنفسي، فهو يكشف طبيعة العلائق الإنسانية التي اختار الكاتب تقديمها، كما يُمثل أيضاً العنصر الآمن الذي يكشف البطل عن أفكاره ومكنونات قلبه عند حضوره، وفي كثير من الحالات يؤدي هذا الصديق دور المساعد والمنقذ في كثير من الأزمات التي قد تودي بحياة البطل.
رواية نجمة إدريس (دار الآداب)
في رواية “في بيتنا رجل” لإحسان عبد القدوس، التي تدور أحداثها في القاهرة عام 1952، نرى أثر الإيمان بفكرة الصداقة عند إبراهيم حمدي حين يُقدم على اغتيال رئيس الوزراء لأنه شاهد رجال الإنكليز يقتلون صديقه الحميم أمام عينيه، ثم يتجلى جوهر الصداقة أيضاً عند محي زاهر، في قبوله استضافة إبراهيم حمدي بعد تمكنه من الهرب من المستشفى إثر اعتقاله وتعذيبه. يكون للأيام القليلة التي يُمضيها حمدي في ضيافة إبراهيم وأسرته أثر كبير على صداقتهما، وعلى النمو النفسي لشخصية محي، هو البعيد عن السياسة، الهادئ، المسالم، يقرر في لحظة حاسمة مواجهة الحياة بشجاعة. يصف الكاتب شخصية محي قائلاً: “قد يحبُّ ولكنه لا يستطيع أن يُعبِّر عن حبِّه، أو يُقنِع به الفتاة التي يحبها، وقد يكون وطنياً، ولكنه لا يستطيع أن يطلق وطنيته أو يندفع وراءها، إنَّ هذا النوع لا يستطيع أن يكون بطلاً، ولكنَّه لا يرفض المساهمة في بطولة، إذا ما اضطر للمساهمة في بطولة ما”.
صوفية النساء
تحضر الصداقة بين النساء في العديد من الروايات العربية، بخاصة في كتابات المرأة. في الصداقة الحقيقية والعميقة بين النساء، البعيدة من الغيرة والتنافس، هناك نوع من الأخوية، التي تصفها الباحثة النسوية كارول بي كرست في كتابها “الصوفية النسوية”، بأن تعاضد النساء مع بعضهن بعضاً يفجر بداخلهن حالة من الوعي الإنساني، والتسامي عن الذات، ليمضين معاً في فهم أعمق لذواتهن وللآخرين، مما يؤدي للتطهر والتخلي عن الحزن والألم، والمضي قُدماً مع روح أكثر حرية.
رواية الحبيب السالمي (دار الآداب)
نجد في روايات الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ نموذجاً لصداقات نسائية وطيدة، بحيث يقوم البنيان السردي للنص على الوشائج والصلات الاجتماعية التي تشكل طبيعة التواصل بين عدة نساء، كما في رواية “مسك الغزال”، التي جمعت بين خمس سيدات، من أماكن وهويات مختلفة. كذلك روايتها “امرأتان على شاطئ البحر”، التي تحكي فيها عن هدى وإيفون، وهما سيدتان لبنانيتان مغتربتان، واحدة تعيش في كندا، والأخرى في لندن، يجمعهما الشوق للبحر الأبيض المتوسط، فتذهبان إليه معاً لأن “كل البحار مزيفة ما عداه”، نقرأ: “لحظات من لقائهما في لبنان وصداقتهما قد توطدت، وأصبحت كل منهما دولاب النجاة للأخرى في بلد أصبحتا تجهلانه. ولم تعودا تعرفان النوطات التي عليهما ضربها للشعور بالانسجام فيه من جديد. فهما قد تركتاه منذ خمس عشرة سنة”.
نجد أيضاً حضوراً للصداقة المتينة في روايات الكاتبة علوية صبح، مثل “مريم الحكايا”، و “اسمه الغرام”، حيث تتجلى مظاهر متعددة للصداقة بين النساء، في البوح الحميم، والمكاشفات، والمشاركة النفسية في وجه صعاب الحياة وهمومها.
في رواية “غراميات شارع الأعشى”، تصف الكاتبة السعودية بدرية البشر كيف تتشكل الصداقات بين فتيات ونساء الحي، لتبني من التفاصيل اليومية الصغيرة عالماً رحباً، يظل قابعاً في الذاكرة، ليكشف عن الماضي، وكيف تكون علاقات المودة بين الجيران جزءاً متداخلاً وحميمياً، تقول: “لقي مسرحي الذي كنت أقيمه على السطح كل خميس، قبول بنات جيراننا. أجلسهن في الصفوف، كما يجلس المتفرجون، ثم أنشر شرشفاً، على حبل الغسيل، بيني وبينهن، أختفي وراءه، وألبس ثياب شخصيتي المقلدة، ثم أرفع الشرشف وأخرج عليهن”.
شبهات عاطفية
رواية عفاف البطاينة (دار الساقي)
تنحسر في الروايات العربية، الصداقات الخالصة بين الرجل والمرأة، معظم العلاقات المطروحة، تحمل شبهة عاطفية، سواء من طرف واحد، أو أنها تتحول لنوع من الحب أو الارتباط، أو مجرد علاقة عابرة. في رواية “الكل يقول أحبك” للكاتبة مي التلمساني، تقدم مجموعة من علاقات الصداقة المتداخلة لشخصيات عربية مغتربة في كندا، يحدث بينهم تقاطع في المصائر، وانجذابات عاطفية وجسدية، تقول على لسان كريم ثابت: “مرت الأزمة وانقطعت أخبار أليشيا وشلة أصدقاء الجامعة… كنت أرغب في استدراجها للكلام عن تلك السهرة الوحيدة التي قضيناها معاً وعن رغبتها المفاجئة في النوم معي، ثم اختفائها وإصرارها على قطع الصداقة”؛ في مقطع آخر مع شخصية نورهان، نجد كيف تتحول الصداقة إلى حب حين تقول: “كنتُ مبهورة الأنفاس أنظر إلى وجهه غير مصدقة. كيف نمت الصداقة لتصبح حباً، وكيف صار الحب رغبة جارفة، وكيف استسلمنا لها بيسر وبلا تساؤلات”.
اقرأ المزيد
تتصدى الكاتبة الكويتية نجمة إدريس في روايتها “حدائقهن المعلقة” لتقديم مبنى حكائي يقوم في صلبه على مجموعة من الأصدقاء، تمضي صداقتهم بين قرب وبعد لزمن طويل. تحضر قيمة الصداقة كصلة جوهرية على مدار النص، تُطلق سهام، وهي إحدى الشخصيات الرئيسية، سؤالها حول الصداقة، وهي في الخامسة والستين من عمرها، جالسة في شقتها المطلة على أحد منعطفات “نوتنغ هيل” في لندن، بحيث تعكس أفكارها حقيقة موقفها الداخلي الملتاع من الفقد ومن غياب رفاق العمر، لنقرأ: “أدارت كلمة أصدقاء في رأسها مرة أخرى، ورأت أن تعبير ظلال، ربما يبدو أكثر صدقاً الآن، بعد أن بعُد عهدها بهم، وخلت شقتها المتواضعة من صخبهم وعنفوانهم القديم، كما خلت من أرواحهم وروائحهم… تذكرت لبنى التي ماتت بسرطان الرئة منذ أشهر، وأروى التي هجرت لندن إلى منفى آخر، حاملة انكساراتها المستعصية على الترميم، وداهمتها سيرة سميحة وهشام ويوسف ونجوى ومنال وسائر الوجوه التي تتزاحم كغصون في زهرية من الأنتيك المعتق”.
أما رواية “الإغواء الأخير”، للكاتبة الأردنية عفاف البطاينة، فإنها تقدم نوعاً فريداً من الصداقة بين سارة وجبران، صداقة فيها رعاية وحب أبوي مجرد، يُشكل بينهما وشائج متينة لسنوات طويلة، منذ أن تتعرض سارة لأزمة وجودية وحياتية يمد لها جبران يده، ويساعدها كي تتجاوز محنتها القاسية، يحتضنها هي وطفلها الوليد في بيته، ويظلون معاً حتى رحيل جبران، حينها تحس أنها فقدت السند في هذه الحياة، تحكي لابنها عنه وتصف علاقتها به قائلة: لم أشعر بالسلام الدائم، والاطمئنان الثابت، إلا مع أبي جبران، ولم أهنأ بحبٍ خالصٍ غير مشروطٍ إلا معه، جبران كان ألقاً يتوهج حين تنطفئ أضواء الكون، ونوراً يمسح القلب قبل العين”.