خالد الدخيل
لماذا العودة إلى رواية توريث الرئيس بشار الأسد؟ لأن مسار الأحداث وما انتهت إليه حتى الآن يؤكد أن قرار التوريث الذي اتخذه الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل سنوات من وفاته في صيف عام 2000 كان أخطر قرار اتخذه في حياته السياسية. ومؤشرات ذلك باتت واضحة. أولها أنه أضعف مؤسسة الرئاسة، وأضعف الرئيس الوريث. وبالتالي ضاعف من هشاشة الدولة السورية. بسبب هذا القرار بات الحكم في سورية يعتمد على العائلة ـ الطائفة، وفرض على سورية خيار تحالف مغلق مع دولة دينية – مذهبية ليست عربية (إيران)، ومن ثم جعل الدولة في حال تناقض مع ذاتها، وتاريخها، ومع عقيدة الحزب الذي تحكم باسمه، أو حزب البعث. على خلفية ذلك وبسببه باتت هذه الدولة تعتمد على خليط من الميليشيات، بعضها جاءت به إيران، والبعض الآخر أوجده النظام الحاكم. لكن كلها ميليشيات من لون مذهبي واحد. والهدف حماية النظام بلونه المذهبي المستجد، والمتنافر مع تاريخ سورية بما عرف عنه من عروبة وتعددية مذهبية. هذه نتائج أو مؤشرات خطرة أفضت إلى مذابح ودمار وتهجير في حق سورية والسوريين لم يعرفها هذا البلد العربي في تاريخه. وما قد يبدو مفارقة أن دور الرئيس الوريث في كل ذلك كان ولا يزال مركزياً منذ اليوم الأول للثورة السورية في درعا، منتصف آذار (مارس) من عام 2011. لكن المفارقة الحقيقية أن الرئيس الوريث لم يكن، لا قبل الثورة ولا أثناءها يدافع عن سورية. كان يقاوم تيار الأحداث الذي أطلقه بنفسه دفاعاً عن بقائه في الحكم الذي ورثه عن أبيه. وهنا تتجلى خطورة القرار، خصوصاً أن بقاء الوريث بعد كل ما حصل لم يعد خياراً، وإنما ورقة تفاوضية لا يملك حتى الوريث السيطرة عليها. بعبارة أخرى، يمكن القول إن قرار التوريث وضع حداً لسورية كما عرفها السوريون، والعالم، وكما عرفها الرئيس المورث، والرئيس الوريث.
السؤال الأهم والأخطر: لماذا أقدم حافظ الأسد على هذا القرار؟ هذا سؤال لم يأخذ حقه بعد، ويحتاج إلى ما هو أكثر من مقالة. هل كان خياراً إستراتيجياً بالنسبة إلى الأسد؟ يبدو كذلك، إما لتفادي أخطار الصراع بين جنرالات النظام، وهو من تسبب ووظف هذه الصراعات للإمساك بخيوط اللعبة. وإما لحلم بتأسيس سلالة حكم جديدة في الشام بغطاء علوي هذه المرة، وهذا لا يمكن استبعاده حتى الآن. وإذا صح ذلك فإنه يضع علامة استفهام كبرى حول الذكاء الإستراتيجي لحافظ الأسد. الأكيد في كل الأحوال أن فكرة التوريث حسمت منذ الثمانينات لباسل الأسد. لكن هذا توفي في حادثة سير في تسعينات القرن الماضي. وعلى إثرها صار التوريث من نصيب بشار. تمسك بالتوريث لا تخطئه عين.
يقول الصحافي البريطاني، باتريك سيل، في كتابه عن الأسد إن عقد الثمانينات كان أخطر المراحل التي مر بها نظام الأسد آنذاك. ووصلت هذه الأخطار إلى ذروتها بالصدام بين حافظ وشقيقه رفعت، وهو صدام كاد ينفجر إلى حرب أهلية. قبل ذلك وبعده كان الصراع مع الإخوان المسلمين، والانخراط في الحرب الأهلية اللبنانية، والصراع مع إسرائيل. كان حافظ مرتكز قوة النظام، وفي اللحظة ذاتها تدهورت صحته ما تطلب دخوله المستشفى، وخضوعه لبرنامج علاجي فرض تخليه عن إدارة شؤون الدولة اليومية. لذلك شكل لجنة سداسية تقوم بالنيابة عنه بهذه المهمة. اللافت أن رفعت شقيق الأسد لم يكن ضمن هذه اللجنة. ووفق سيل، استولت على كبار جنرالات النظام حال من الخوف أن الأسد في أيامه الأخيرة، مع ما ينطوي عليه ذلك من أخطار على مستقبل النظام. لذلك التفوا على قرار الرئيس وهو في المستشفى، واختاروا أن يكون رفعت هو القائد البديل في حال توفي الأسد، وليس أحد من اللجنة الحكومية التي شكلها الأسد نفسه. ثم شكلوا من خلال القيادة القطرية، وبالتعاون مع عبدالحليم خدام، لجنة بديلة برئاسة رفعت. أي أن الجنرالات اختاروا الخروج على أوامر الرئيس. لكن الأسد تعافى من حاله المرضية. وعندما عرف بما حدث تعززت شكوكه، كما يقول سيل في أن هناك مؤامرة سعودية أميركية لإزاحته عن الحكم لمصلحة شقيقه. عندها انقلب موقف الجنرالات في الاتجاه الآخر، ضد شقيق الأسد. ومن يومها بدأت عملية إزاحته وتجريده من كل مناصبه خصوصاً قيادته ما كان يعرف بـ «سرايا الدفاع». والأرجح أن هذه الأحداث رسخت فكرة التوريث لدى الرئيس.
هنا نصل إلى رواية فاروق الشرع، نائب الرئيس الذي اختفى من المشهد بعد سنتين من بداية الثورة، ويقال إنه تحت الإقامة الجبرية. تنبع أهمية هذه الرواية من اعتبارات عدة يأتي في مقدمها أنها الأولى التي تصدر عن أحد رجالات النظام المقربين، خصوصاً في عهد الأسد الأب. ثانياً أنها جاءت ضمن مذكرات الشرع التي أنجزت عام 2011. ما يعني أنها كتبت، وفقاً لما جاء في مقدمة الناشر، بعد مرور نحو عشر سنوات على تولي بشار الأسد الحكم في سورية. وبالتالي فالسؤال هنا لماذا لم تتطرق المذكرات إلى هذه المرحلة المهمة من تاريخ سورية، بل المرحلة الأخطر التي كان الشرع أحد شهودها من الداخل كوزير للخارجية، ثم نائباً للرئيس، قبل وضعه تحت الإقامة الجبرية؟ يقال إن علاقة الشرع مع بشار بدأت تفتر قبل الثورة. الاعتبار الثالث أن الشرع أورد هذه الرواية في شكل عابر في الصفحتين والنصف الأخيرة من الكتاب، كخاتمة للفصل الأخير عن قمة الأسد وكلينتون في جنيف. قد يقال إن الكاتب أراد أن يختتم مذكراته بوفاة الأسد التي حصلت بعد القمة بأقل من ثلاثة أشهر. من حيث الشكل هذا صحيح. لكن عملية التوريث أكبر وأخطر من أن توضع كتفصيل على هذا النحو. وهي قصة طويلة لم تبدأ كما يوحي صاحب المذكرات بعد وفاة الأسد. بل بدأت قبل ذلك بما لا يقل عن عقدين من الزمن. هذا فضلاً عن أنها بتداعياتها وأخطارها لا تزال تعتمل داخل سورية. وما انتهاء الأمر بالشرع إلى الإقامة الجبرية إلا أحد هذه التداعيات، وإن لم يكن أخطرها.
تقول الرواية ما نصه: «من حيث المبدأ أنا لا أؤمن بالتوريث… وعندما وافقت… على اقتراح مصطفى طلاس (بتولي بشار خليفة لوالده) فإنما لسببين كنت مقتنعاً بهما: السبب الأول هو أن ذكرى الصراع مع رفعت الأسد عام 1984 لا تزال ماثلة في ذاكرتي… شعرت أن اختيار بشار الأسد سيكون مخرجاً آمناً وبديلاً سلمياً من صراع دام يمكن أن ينفجر إذا أخطأنا الاختيار لأن كل عناصره ما زالت في قيد الحياة. السبب الثاني أن الدكتور بشار… لديه رصيد شخصي وجملة مؤهلات تأتي في مقدمها رغبته المعلنة في الإصلاح والتحديث»، (الرواية المفقودة، ص 457) أ.هـ. هذه الرواية تخفي، كما أشرت، بداية فكرة التوريث وأسبابه وأهدافه. وهذا مفهوم نظراً لحساسية الموضوع، وحساسية النظام بدمويته التي اشتهر بها. من ناحية ثانية، تنطوي الرواية على شيء من الجرأة عندما قال الشرع إنه لا يؤمن بالتوريث، وإنه قبل به تفادياً لانفجار صراع مدمر داخل النظام، صراع قديم ولا يزال حياً. كما أشرت في مقالة سابقة هذا يعني أن الشرع اعتبر تولي بشار للرئاسة حينها أقل الخيارات المتاحة سوءاً. ما يوحي بأن الشرع ليس فقط لا يؤمن بالتوريث، بل ليس مقتنعاً بقيادة بشار للرئاسة. هل لهذه الجرأة علاقة بإبعاد الرجل ووضعه تحت الإقامة الجبرية؟ الأرجح أن هناك علاقة ما، لكنها ليست الوحيدة. فتخصيص المذكرات للأسد الأب وتجاهل عشر سنوات من حكم الابن يحملان دلالة على موقف الشرع من حكم بشار، وهو موقف لم يكن بوسعه الإفصاح عنه، وإنما بتجنبه. ولعل قفلة الكتاب تلمح من بعيد لهذا الموقف حيث يقول: «هناك أناس يموتون دفعة واحدة سرعان ما يختفون من حياتنا وذاكرتنا. وحافظ الأسد لم يكن من هؤلاء… كان كشجرة السنديانة تموت وتظل جذورها حية في أعماق الأرض». أي أن قناعاته وخياراته وصلت عند حدودها مع رحيل الأسد الأب. والحقيقة أنه لم يبق بعد حافظ وقراره بالتوريث جذر قابل للحياة. ما بقي نظام يقاوم سقوطاً ليس بوسعه (وحده) إيقافه. وهنا تبدو ازدواجية الشرع بين موقفه من حافظ (الفرد) وطبيعة النظام الذي أقامه، وبين موقفه من الوريث الذي فرضته طبيعة النظام ومعطياتها. وليس أدل على ذلك من أن الذي وضع بذرة انهيار النظام هو من وصفه الشرع بالسنديانة. انتهت المقالة، لكن الحكاية لم تنته.