إيمان درنيقة الكمالي
أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة
لطالما اتّسمت العلاقة بين روسيا وإيران بتقلبات مستمرة، تراوحت بين التوتر والعداء، التوجس والتنافس.
على مر العصور، كانت روسيا خصماً لدوداً لإيران، حيث فرضت عليها سلسلة من الاتفاقيات القاسية وحرمتها من العديد من أراضيها مثل تركمانستان وداغستان وأجزاء كبيرة من أفغانستان وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا، كما أثرت على مواقفها السياسية.
بدءاً من معاهدتي جولستان (عام 1813) وتركمانجاي (عام 1828)، اللتين أجبرتا إيران على التنازل عن نحو ربع مليون كيلومتر مربع من أراضيها، مًرورا بوقوف روسيا ضد الثورة الدستورية الإيرانية في بداية القرن العشرين ودعمها النظام القاجاري، ووصولاً إلى دعمها لصدام حسين في الحرب العراقية -الإيرانية، وتوقيعها اتفاقية بحر قزوين، وموقفها من قضية الجزر الثلاث؛ كان واضحاً أن روسيا لم تلعب دوراً في تعزيز مصالح إيران.
وفي ظل هذه الوقائع التاريخية، يبرز تساؤل كبير:
ما الذي تغيّر لتتحول هذه العلاقة المعقدة إلى شراكة استراتيجية قائمة على التعاون والاهتمام المشترك؟ وما هي الدوافع الكامنة وراء هذا التحوّل؟
وهل يمكن اعتبار اتفاقهما “تحالفاً حقيقياً”، أم هو مجرد “شراكة”، أو علاقة “زواج مصلحة”؟
تعاون شامل يمتد لعقود
كما وصفها الرئيس الروسي بوتين، تعد اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران، والتي وُقّعت في 17 كانون الأول/ديسمبر 2025، “اختراقاً تاريخياً” في العلاقات الثنائية. وهي واحدة من أوسع وأهم الاتفاقيات في تاريخ البلدين، حيث تضيف زخماً جديداً لكافة مجالات التعاون بينهما.
وتتضمن الاتفاقية 47 مادة تضمن التعاون في أكثر من 30 مجالاً حيوياً، مثل الدفاع، التجارة، الطاقة، التمويل، السكك الحديد، النقل البحري والجوي، بالإضافة إلى الزراعة، الثقافة، العلوم والتكنولوجيا، الرعاية الصحية، الاستخبارات، ومكافحة الإرهاب. كما تغطي قضايا الأمن، بما في ذلك مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى التعاون في مجالات الصناعة والاستثمار. وتمتد الاتفاقية لمدة 20 عاماً مع إمكانية التمديد التلقائي لفترات إضافية مدتها 5 سنوات، ما يعكس الأهمية الاستراتيجية التي توليها الدولتان لهذه الشراكة.
الفوائد العسكرية والمالية للاتفاقية بين روسيا وإيران
توفر اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران دعماً كبيراً في المجال العسكري والاستخباراتي للدولتين. فمن خلال التعاون في منظومات الدفاع الجوي مثل “خرداد 1، 2، 3” و”S-300″، تتمكن إيران من تحسين قدراتها العسكرية باستخدام التكنولوجيا الروسية المتقدمة؛ ما يعزز من قدرتها الدفاعية.
من ناحية ثانية، تستفيد روسيا من عدة أسلحة وتقنيات عسكرية ايرانية كالطائرات المسيّرة مثل “شاهد-136” و”شاهد-131″، التي تستخدمها في هجماتها على البنية التحتية الأوكرانية.
وتعزز الاتفاقية التعاون المالي والتجاري بين روسيا وإيران عبر مشاريع مبتكرة، مثل ربط نظام الدفع “مير” الروسي بشبكة “شتاب” الإيرانية، وتوسيع استخدام العملات المحلية كالريال والروبل في التبادلات التجارية، ما يقلل الاعتماد على الدولار ويعود بالنفع على اقتصاد البلدين، ويزيد من استقلاليتهما، ويحميهما من تقلبات العملة الأميركية.
توقيع الاتفاقية في توقيت حاسم
يحمل توقيت توقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين روسيا وإيران أهمية كبيرة، خاصةً أنه جاء قبل أيام من عودة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض. هذا التوقيت يعكس تحالفاً استراتيجياً بين البلدين في مواجهة النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
إنّ التراجع الذي شهدته المنطقة، لا سيما بعد التقلّبات في الوضع السوري وانهيار نظام بشار الأسد، شكّل خسارة لروسيا وإيران، ما دفعهما إلى التقارب والبحث عن دعم مشترك في مواجهة التحديات الناتجة عن العقوبات الغربية والتمدد الأميركي.
وفي هذا السياق، فإن الاتفاقية تؤكد أن روسيا وإيران، وبعد فترة من الحذر، سعتا الى التنسيق بينهما على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتثبيت ذلك في اتفاقية مشتركة وملزمة وغير “خجولة”.
تحالف بلا التزامات دفاعية
اللافت في الاتفاقية بين إيران وروسيا أنّها لا تتضمن أي بند حول الدفاع المشترك في حال تعرض أي من الطرفين للاعتداء، كما أن البلدين لن يساعدا أي دولة تهاجم إحداهما. على سبيل المثال، إذا اعتدت إسرائيل على إيران، فإن روسيا لن تدعم إسرائيل، لكنها في الوقت ذاته لن تنحاز إلى إيران في حربها ضد إسرائيل. وعلى الجانب الآخر، إذا تعرضت روسيا للاعتداء، مثلاً أثناء الهجوم على أوكرانيا، فإن إيران لن تدعم أوكرانيا، ولن تنضم بالضرورة إلى الحرب.
من هنا، وعلى الرغم من أن الاتفاقية تحمل اسم “الشراكة الاستراتيجية”، فهي لا تتضمن آليات تنفيذية واضحة لدعم عسكري مشترك أو تعاون حربي ملموس، ما يجعلها أقرب إلى اتفاق “دعائي” منه إلى تحالف عسكري حقيقي على غرار الناتو أو حلف وارسو. فهي تفتقر إلى الأسس الصلبة التي يقوم عليها التحالف العسكري الفعلي، وتقتصر على إعلان نوايا أكثر من كونها التزامات متبادلة.
الدوافع الكامنة وراء الاتفاق
يبدو أن الاتفاقية بين روسيا وإيران تتجاوز مجرد التعاون العسكري، لتشمل حسابات جيوسياسية معقدة. من ناحية، تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال فتح ممر “زنغزور” الاستراتيجي، الذي يربطها بتركيا وأوروبا عبر أذربيجان. أما إيران، التي تتخلف عسكرياً عن قوى أخرى في المنطقة، فتسعى للحصول على أسلحة وتقنيات روسية حديثة مثل S400 .
هذا يعني، أن إيران قد تجد أنه من الأفضل لها الموافقة على فتح ممر “زنغزور” لروسيا، رغم ما يحمله من مخاطر على نفوذها الإقليمي، وذلك للحصول على أنظمة دفاعية متطورة ومقاتلات حديثة، نظراً لتأخر تسليحها مقارنة بالقوى الكبرى مثل إسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذي يعزز من قدرتها على الردع ويحسّن توازنها العسكري الإقليمي.
في الختام، يبدو أن إيران وروسيا قد وضعتا خلافاتهما التاريخية جانباً، وانغمستا في هذه الاتفاقية في وقت حاسم، لتحقيق مصالحهما المتضاربة، رغم التحديات. إلا أن الشكوك الإيرانية تجاه روسيا، المتأصلة في تاريخ طويل من التوجس، تظل حاضرة في ظل هذه الشراكة.
وعليه، تبقى الاتفاقية عرضة للاختبارات الجيوسياسية والظروف الإقليمية المتغيرة، التي قد تؤثر بشكل كبير على مصيرها وعلى طبيعة العلاقات بين البلدين.
حتى اللحظة، لا يمكن تصنيفها أكثر من كونها “شراكة مصلحة” تم بناؤها على أسس مؤقتة تحددها ضغوط وتحديات آنية. ومع ذلك، فإنها بلا شك ستترك آثاراً واضحة على العلاقات الإقليمية والدولية، على الأقل في المنظور القريب.