كتاب عن المفكر الفرنسي الرائد يستعيد مبادئه التي وسمت الفكر الاجتماعي
مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة
المفكر الفرنسي رينه جيرار (أ ف ب)
يتميز تاريخ الفكر الغربي في القرن العشرين بصدور عددٍ من الأبحاث الفلسفية والأنثروبولوجية التي اهتمت بالكشف عن أصل الأفكار والمعتقدات والعادات التي أُهملت دراستها على مدى آلاف السنين. كان الأمر كما لو أن الدافع للقيام بهذه الدراسات هو العثور على الجذور المفقودة للإنسانية التي بدأت تترنح أو تنهار جراء هول الحربين العالميتين، ورجس معسكرات الاعتقال، وعار القنبلة الذرية في هيروشيما وناغازاكي، وفرضية الحرب النووية ثم مأساة المجازر والإرهاب وتفاقم نوازع الاستئثار والسيطرة والاستبداد.javascript:false
لم تكن الرغبة في استعادة دراسة تاريخ الأفكار طموحاً علمياً فحسب، بل ضرورة حيوية في عالم يختبر ضمور النزعة الإنسانية ويعيش على شفير الهاوية. ذلك أن العودة إلى المصادر أو الينابيع هي بوصلة الأمم الضالة سواء السبيل. من هذا المنظار أعاد فكر القرن العشرين ربط نفسه بدراسة الماضي، فقدم لنا في مفارقة غامضة الأسوأ والأفضل، مؤكداً قول الشاعر الألماني هولدرلين “حيث يستفحل الخطر، ينمو أيضاً ما يُنقذ وما يساعد على الخلاص”.
من هذه الدراسات اللافتة تلك التي وقعها رينه جيرار الذي تحتفل فرنسا اليوم بالذكرى المئوية الأولى لولادته (1923-2015)، هو الذي حفرَ عميقاً في فهم مجاهل العنف الكامن في طبيعة الإنسان، كاشفاً بعضاً من غموضه وتعقيداته. ولعل هذه الذكرى المئوية تشكل فرصةً للتأمل في أعمال وإرث هذه الشخصية الفكرية الكبرى، التي خصها بونوا شانتر بكتاب جديد تناول سيرته صدر في باريس عن دار غراسية. كما وقع برنار بيريه كتابه المسمى “عنف الآلهة، عنف الإنسان. رينيه جيرار، معاصرنا” الصادر عن دار سوي، وهو عبارة عن دراسة تستعيد في خلاصة نقدية عميقة أعمال جيرار بعد ثماني سنوات على وفاته، في إشارة منه إلى المكانة التي يحتلها هذا الفيلسوف في المشهد الفكري والثقافي العالمي. وقد كان هذا الكتاب موضوع حوارٍ نشرته جريدة “لوموند” الفرنسية.
المفكر الرائد
الكتاب الجديد عن رينه جيرار (دار غراسيه)
ولد رينه جيرار، المؤرخ والناقد الأدبي والفيلسوف وعالم الأنثروبولوجيا والمفكر في تاريخ الأديان، في مدينة أفينيون الفرنسية عام 1923. وضع ما يقارب الثلاثين كتاباً تناولت بمعظمها موضوعات العنف والمقدس والأساطير والطقوس الدينية وكبش الفداء والرغبة المحاكاتية وغيرها. كان تأثير أعماله واضحاً في مجالات الفلسفة والنقد الأدبي والأنثروبولوجيا واللاهوت وعلم النفس والأساطير وعلم الاجتماع والاقتصاد والدراسات الثقافية. ويبدو من العسير بمكان حصر أعماله في مجال أكاديمي واحد، بعد أن عمل على تأسيس علمٍ أنثروبولوجيٍ جعل من مهمته شرح تكوين عملية الأنسنة وحدودها.
كرس رينه جيرار كل أبحاثه ودراساته للكشف عن بعض أسرار الطبيعة البشرية. وقد بدأ حياته العلمية طالباً في مدرسة علوم الباليوغرافيا والصكوك والوثائق والمحفوظات في باريس حيث دافع عن أطروحة في علم دراسة الخطوط القديمة ومحاولة فك رموز وقراءة المخطوطات. غادر بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1947 ليتابع دراساته العليا في التاريخ مدافعاً عن أطروحة ثانية في جامعة إنديانا.
بعد نيله شهادة الدكتوراه في التاريخ عام 1950، عُين جيرار أستاذاً للأدب الفرنسي، ووقع مقالات مهمة تناولت كتابات ألبير كامو ومارسيل بروست. ثم تنقل بين عددٍ من الجامعات الأميركية كجامعة ديوك وكلية برين ماور وبافالو قبل أن يصبح أستاذاً في جامعة جونز هوبكينز في بالتيمور عام 1961.
كتاب “جذور الثقافة” (فناك)
في هذه الفترة من حياته نشر رينه جيرار كتابه الأول “الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية” عام 1966، ثم أتبعه بكتابه الشهير “العنف والمقدس” (1972) و”كتاب الأشياء المخبأة منذ تأسيس العالم” (1978). عام 1981 انتقل إلى جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا أستاذاً للغة والأدب والحضارة الفرنسية. وقد استمر في عمله هذا حتى تقاعده عام 1995. في عام 1982 أصدر كتاب “كبش فداء”، و”الطريق القديم للرجال المنحرفين” وهو عبارة عن شروحات وتعليقات تناولت سفر أيوب في الكتاب المقدس (1985)، و”مسرح الحسد: ويليام شكسبير” (1991)، و”عندما تبدأ هذه الأشياء” (1994)، علماً أنه حصل عام 1985 على أولى شهاداته الفخرية من جامعة أمستردام الحرة في هولندا.
آليات الرغبة
كانت علاقة رينيه جيرار بالجامعات الفرنسية متوترة بعض الشيء، لا سيما بعد انتصار البنيوية والتفكيكية وعلم الاجتماع البورديوي الذي لم يترك مجالاً كبيراً لنظرياته في ميادين الطبيعة الإنسانية ومصيرها والمنظومات المعرفية والأخلاقية للرغبة. على رغم ذلك استُقبل جيرار عام 2005 كعضو في الأكاديمية الفرنسية بخطاب لا يُنسى ألقاه صديقه الفيلسوف ميشيل سير (1930-2019)، وكرمته الصحافة الفرنسية بالإجماع يوم وفاته.
كانت اللبنة الأولى في الصرح الفكري الجيراردي صدور كتابه “الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية” الذي تناول فيه موضوع آليات الرغبة، هو المتبحر في روايات كتاب عظام أمثال سرفانتس وشكسبير ودوستويفسكي وفلوبير وستندال وبروست وغيرهم من الروائيين. مكنته دراسة شخصيات هذه الروايات من استخراج وصفٍ دقيقٍ للعلاقات الإنسانية، انطلاقاً من مقولة تؤكد أن فهم المجتمعات البشرية يبدأ من دراسة معمقة للرغبة وطبيعتها. وقد لاحظ جيرار في هذه الأعمال الأدبية التي عمل على تأصيل فهمه للرغبة من خلال تتبع حضورها فيها، أن الإنسان يستعير رغباته من الآخرين وهو لا يرغب بامتلاك الشيء المرغوب به من قبل بطل الرواية، بل يتوق إلى أن يكون مكان البطل المالك للشيء. بتعبير آخر، لا يريد الراغب امتلاك الشيء المرغوب به بشكل مباشر بل يتطلع إلى “تقليد” البطل ومحاكاته. فالمواجهة ليست إذاً مع امتلاك الشيء، بل مع ذات الند أو ذات الحضور الثالث. بمعنى أن ذات القارئ ترغب في امتلاك الشيء نفسه الذي يرغب به الآخر، وهو ههنا الند. ولا ينشأ التناد بسبب الالتقاء العرَضي بين رغبتين في شيء واحد، بل إن ذاتَ الراغب ما كانت لترغب بالشيء، إلا لأن الند يرغبُ به. فلهفة دون كيشوت لمقارعة الطواحين، لا تعبر حصراً عن فروسية وشهامة خاصة، بل إن دون كيشوت لا يفعل ما يفعله إلا لأنه يعتقد أن أماديس دي جاولا كان سيفعل الشيء عينه.
كتاب “عنف الآلهة عنف الإنسان” (دار سوي)
كان من نتيجة هذه الدراسات الأدبية توصل جيرار إلى حقيقة مفادها عدم أصالة الكائن الإنساني، الذي يعتقد أنه يستمد رغباته من نفسه. فذلك ليس سوى خداع رومانسي، لأن الحقيقة تقول إن الإنسان لا يرغب في شيء، إلا لأن الآخر يرغب به. الإنسان لا يخلق رغباته، لكنه يستعيرها من الآخرين.
قدوة الذات
ينبه الند الذاتَ إذاً من خلال الرغبة في موضوع ما أو شيء ما إلى مرغوبية ذلك الموضوع أو الشيء. ما يجعل من الند قدوةً للذات على مستوى الرغبات. هذا يعني ببساطة أن الرغبة هي رغبة في الكينونة، رغبة في شيء يفتقر إليه الراغب نفسه، في حين أن شخصاً آخر يمتلكه. على هذا الأساس تتطلع الذاتُ إلى ذلك الشخص الآخر لإبلاغها بما يجب عليها أن ترغب به في سبيل اكتساب الكينونة. لذلك فإن الآخر ينقل إلى الذات مرغوبية الموضوع، ليس من خلال الكلمات، ولكن من خلال مثال رغبته الخاصة.
الرغبة في حد ذاتها محاكاتية. لكن المحاكاة المقترنة بالرغبة تؤدي دوماً إلى الصراع. وها هو ذا رينه جيرار يلفت انتباهنا إلى أنه في العلاقات الإنسانية تثير كلمات مثل “التشابه” و”التماثل” صورة من التناغم. فنحن إن تشاركنا الأذواق نفسها وأحببنا الأشياء نفسها فهذا يعني أننا ملزمون بالتوافق. لكن ما الذي سيحدث عندما نتشارك الرغبات نفسها؟ يقول لنا جيرار إن كبار المسرحيين والروائيين وحدهم مَن فهم هذا الشكل من التناد واستطاع استكشافه. الرغبة هي بالنهاية الرغبة في الوجود والكينونة، وطبيعتها قائمة بالتالي على التقليد والمحاكاة. غير أنه كلما كان النموذج قابل للتقليد، كلما شكل عائقاً أمام تحقيق الرغبة، لدرجة أن الأمر ينتهي بالراغب إلى كره نده ومحاولة قتله، وهذا ما يسميه رينيه جيرار “أزمة الرغبة المحاكاتية”.
كتاب له بالترجمة العربية (منظمة الترجمة)
باختصار لم يقدم الفيلسوف والأنثروبولوجي الفرنسي هذا التفسير للرغبة باعتباره نسقاً مفهومياً، بل أراد أن يقول لنا إن العلاقة بين الراغب والشيء المرغوب به غير مباشرة، بل هي علاقة ثلاثية بين الشخص الراغب، والنموذج والشي المرغوب به. فالشخص ينجذب للنموذج من خلال الشيء المرغوب به. وقد أطلق جيرار على هذا النموذج اسم الوسيط. من هنا، يبدأ بالنسبة له بُعْد المحاكاة. ذلك أن رغبتنا لا تنبع منا، بل يحركها فينا شخص آخر يرغب في الشيء نفسه.
المشاركة والتعاطف
يضع رينه جيرار أمامنا في هذا الكتاب مثلث الرغبة المكون من الراغب والمرغوب به أو موضوع الرغبة والند. أما الأشياء التي يمكن أن تكون موضوع رغبة مشتركة، فهي نوعان: تلك التي تقبل المشاركة وتولد بين البشر مشاعر التعاطف، وتلك التي يتمسك بها الفرد ولا تقبل المشاركة، فتولد التنافس وبالتالي الغيرة والحسد والكراهية وتوصل إلى العنف.
كان هذا الكتاب بداية البحث في تشكل العنف واستمراره عند الإنسان في تمظهرات عدة، امتدت إلى مختلف النشاطات الإنسانية. ولعله على هذا المستوى من التحليل يتموضع كتاب رينه جيرار الثاني “العنف والمقدس” (1972)، الذي رأى فيه أن كل المجتمعات البدائية قامت على فكرة “كبش الفداء” أو “الإبدال الذبائحي الأول”، مبتكرةً هذه الوسيلة لإيقاف العنف المدمر، ذاهباً حد القول إن التضحية بأحد أفراد المجتمع الذي تُلقى عليه مسؤولية العنف والشر، تقود إلى السلام.
اقرأ المزيد
- إدغار موران جمع بين سيرته وتفاصيل مشروعه الأساسي
- المفكر ريجيس دوبريه يكشف آثار الكتّاب الأساتذة في مساره
ومن خلال دراسة طقوس هذا الإبدال الذبائحي، أشار جيرار إلى نشأة فكرة الألوهة أو المقدس الأسطوري وظهور المحظورات والمحرمات التي تنظم حياة المجتمع الإنساني وتمنع عودة العنف، واضعاً نظرية في أصل الثقافات. ولأن خطر العنف يبقى حاضراً على رغم الممنوعات، وخوفاً من عودته بسبب من استمرار آلية الرغبة المحاكاتية، استنتج جيرار من خلال دراسته للجماعات البشرية عبر التاريخ قيامها بإنشاء إبدال ذبائحي ثانٍ يعوض الضحية الفدائية المنتمية إليها بضحية طقسية من خارجها. هنا يقع الاختيار على أسرى الحرب والمهمشين والمنبوذين، حتى تصل الجماعة إلى مرحلة البعد الرمزي حين تعوض الذبيحة البشرية بذبيحة بديلة حيوانية، فتتطهر.
تلعب الذبائح إذاً دوراً وقائياً لوأد العنف الموجود في قلب المجتمع وفي حركة التاريخ. هذا ما تكشف عنه الأساطير والمعتقدات الطوطمية التي كرس لها الفيلسوف الفرنسي دراساتٍ معمقة، مستنتجاً أن التضحية بالبشر طقس نجده عند الفراعنة والمايا والأزتيك لجلب رضى الآلهة. وكبش الفداء لا يصبح مقدساً، إلا لأنه يمتلك القدرة على تخليص الجماعة من أزمتها وحمل وزر كل الأخطاء التي وقعت فيها. غير أن العنف المقدس ليس عنفاً مجانياً، بل له وظيفة تطهيرية، غايتها تحقيق الاستقرار وطرد العنف.
كانت أطروحة هذا الكتاب في أصل الانتقادات الشديدة التي تعرض لها رينه جيرار من قبل الأكاديميين الفرنسيين لتجرؤه على التشكيك ببعض المفاهيم الفرودية المتعلقة بالرغبة أو تلك التي قامت عليها الأنثروبولوجيا البنيوية مع كلود ليفي شتراوس. غير أنه طور في كتبه اللاحقة نظريته هذه، لا سيما في كتابه “الأشياء المخبأة منذ تأسيس العالم” و”كبش الفداء” و”القربان” و”من العنف إلى الألوهة” (2004) و”أصول الثقافة”، وغيرها من العناوين التي أصبحت مراجع أساسية في ميادين البحث الأنثروبولوجي والديني والنقد الأدبي والأدب المقارن. كما تفكر في خصوصيات الثقافة الغربية، متوقفاً أمام الدور الذي لعبته المسيحية التي أوقفت برأيه فكرة “كبش الفداء” أو “الإبدال الذبائحي الأول” وأحلت محلها القربان المقدس، وعملت على إيقاف العنف وفقاً لوصية المسيح القائمة على محبة القريب والعدو، جاعلاً من الأناجيل حدثاً غير مسبوق في تاريخ البشرية.
في آخر أعماله رأى رينيه جيرار أن البشرية ما زالت أسيرة البدائية وأنها تتجه نحو الحرب المطلقة التي ستكون أكثر عنفاً مع وجود الأسلحة النووية، محذراً من خطر ما آلت إليه أوضاع المجتمعات الإنسانية كلها.
يبقى في النهاية أن هذه المئوية مناسبة لاستعادة قراءة كتابات رينه جيرار، علنا نستلهم منها وسائل تساعدنا على درء الأخطار المحدقة بنا بدءاً من فهم طبيعة رغباتنا والعنف الكامن فينا.