حازم الامين
نجح «حزب الله» في مسألة أخرى غير تلك المتمثلة بإمساكه بجوهر القرار اللبناني. نجح في تسريب صورة عن نفسه هي غير صورة الحزب المذهبي الأصولي. هذا على رغم ممارسته يومياً مهمته المتثملة بأنه حزب السلفية الشيعية إذا صحت العبارة. ويبدو أن الشيخ نعيم قاسم هو من أنيطت به مهمة التذكير بهذه الحقيقة، علماً أن توزيع الأدوار يبدو دقيقاً هنا، فالأمين العام لا يعرض نفسه للتصدي لهذه المهمة، لكن لا بد للحزب من أن يُذكر نفسه بها. إذاً الشيخ نعيم لها، وهو ليس تفصيلاً في الحزب. هو نائب الأمين العام.
ما أثارته تصريحات الشيخ قاسم التي حذر فيها من دور المرأة المطلّقة في التعليم، توحي بأن المنذهلين كانوا يتوقعون من قاسم غير ما قاله، مع العلم أن الأخير لطالما تضمنت «دروسه» أفكاراً موغلة في رجعيتها هي في جوهرها الأصل الأيديولوجي لعقيدة حزبه.
الأرجح أن وراء الذهول والدهشة ووراء تكرارهما في كل محطة وهم آخر: «قتال إسرائيل»، ذاك أن ثمة وعياً يميل إلى أن هذا الفعل يعفي الرجعي من رجعيته ويجعله «تقدمياً»، وما أن تلوح الطبيعة الأولى لهذا «المقاوم» حتى يشعر «الوعي المقاوم» بخيبته.
«المهمة في سورية» وجدت لنفسها تفسيراً «مقاوماً» بعد الالتفاف على مهمة «حماية المراقد»، فالحزب ذهب إلى سورية لـ «حماية المقاومة»! وظيفته المذهبية هناك تبقى تفاصيل لا قيمة لها أمام هول المهمة. «حماية المقاومة» تتيح أي محظورٍ. إذاً ما الذي يمنع الشيخ قاسم من التحفظ عن دور النساء المطلقات في تعليم الأجيال الجديدة. الحزب قوي ويمكنه أن يجد تصريفاً مقاوماً لهذا القول، وعندها سيصمت المنذهلون على نحو ما صمتوا على مهمة «حماية المراقد». فأن يُقال مثلاً أن انفصال الزوجة عن زوجها ناجم عن تفكك أسري يفضي إلى وهن العزيمة على المقاومة والقتال، ففي ذلك قول لا يحمل من ضعف الحجة أكثر مما حمله قول إن وظيفة القتال في سورية هو «حماية المقاومة».
والحال أن ليس لـ «حزب الله» بعد أن تستقر السلطة به إلا أن يعود إلى طبيعته الأولى المتمثلة في أنه حزب ديني أصولي ممارس هذه الطبيعةَ على مستوياتها المختلفة. الطبيعة «المقاومة» للحزب عندما تصبح سلطة ستعود إلى الكتاب الأول لهذه السلطة. إنها طريق الأصولية إلى السلفية، وفق أوليفييه روا، والمهمة الأولى للثورة الإيرانية بعد هزيمة الشاه هي القضاء على نحو دموي على شريكها الأول في الثورة، حزب تودة. لا طريق لـ «حزب الله» سوى هذا الطريق. «المقاومة» والقتال في سورية يقضيان بضم شرائح غير متدينة إلى خرافة الخطاب، والسلطة لاحقاً تتطلب القضاء على هذه الشرائح. الثورات لا تحتمل شركاء، ومن يتوهم أنه شريك الحزب في مهماته سيكون الضحية الأولى له بعد انقضاء المهمة.
«حزب الله» شبه سلطة اليوم في لبنان، وللسلطة رعايا سيغفرون لها «زلة لسانها»، والعبارة الأخيرة هي ما وصف بها قيادي شيوعي لبناني «مقاوم» خطبة الشيخ نعيم حول المرأة المطلّقة. هي «زلة لسان» بحسب القيادي الشيوعي، أما الأصل فهو أن الحزب متنور وتقدمي ومع العلاقات الحرة. لا شيء يمكن أن يختصر علاقة «متنوري» الممانعة بخطاب «حزب الله» سوى قول شاعر الصعاليك عروة بن الورد في وصف ذنوب الأغنياء: « قليل ذنبهم والذنب جم… ولكن للغنى رب غفور».
«الوعي المقاوم» سيبقى يغفر لـ «حزب الله» أصوليته ورجعيته، وسيحيل كل ما يرافق ذلك إلى الطبيعة «الاستثنائية» للمرحلة. هذا الوعي لا يُدرك أن هذه المرحلة هي ما يسبق انقضاض الحزب عليه.