زيارة أردوغان للجزائر: استدعاء للتاريخ وسجال إيديولوجي عقيم

1

 
د. عبدالله راقدي
أثارت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للجزائر جدل حاد بين أكثر من تيار واتجاه فكري وإيديولوجي. ظهر على شبكات التواصل الاجتماعي والصحافة المكتوبة وقنوات التلفزيون. فبين رافض للزيارة بدعوى خلفيته “الإسلامية” وماضي أسلافه العثمانيين الأتراك غير المشرف في الجزائر، ومرحب بقدومه باعتباره زعيم إسلامي نجح في الانتقال بتركيا من دولة مترنحة في مستنقع الفساد إلى مصاف أقوى عشرين اقتصاد عالمي. فما هي دواعي إثارة مثل هذا الجدل؟ وهل زيارته ذات أبعاد استثمارية اقتصادية بحتة؟ وهل للدبلوماسية الجزائرية أوراق تأثير على السلوك التركي في سوريا وليبيا وغيرها من الملفات؟ والإجابة على مثل هذه الأسئلة كفيل بفهم جوانب من هذا السجال.
توابل التاريخ من أجل فهم السجال وأجندة المستقبل
يقتضي أي حديث عن العلاقات الجزائرية التركية استدعاء للماضي التاريخي بين البلدين الذي إمتد من 1516 إلى غاية احتلال فرنسا للجزائر عام 1830. في هذا الفترة فرض الأتراك تقسيما اجتماعيا تمييزيا ، حيث يأتي في أعلى هرم السلم الاجتماعي فئة العثمانيين الأتراك، ثم يليهم الكراغلة (المولدون في الجزائر من الزواج بين الأتراك والجزائريين) ثم باقي السكان بما فيهم المسيحيين واليهود.. ومن بين ما يذكره المؤرخون بخصوص جرائم العثمانيين الأتراك في حق الجزائريين لاسيما الرافضين دفع الضرائب، رمي كل جزائري يرفض دفع الضرائب على كاف الشكارة” وهو واد صخري سحيق في مدينة قسنطينة، وفي الاوراس يتم قطع أذانهم ورِؤوسهم وتعلق لأشهر في أماكن عامة لتكون عبرة لكل من تسول له نفسه رفض تسديد الضرائب، فضلا على اقتراف جرائم إبادة في حق السكان، كما حصل مع سكان في قرية أيث سعيد في 29 ماي 1825 حيث قتل الأتراك قتل أكثر من 300 مواطن من هذه القرية.
مقابل هذا القمع المسلط ضد الأهالي، مكن الأتراك العثمانيون عائلات يهودية من الاستحواذ على ثروات الجزائر، كما هو الحال بالنسبة لعائلتي “بكري” و “بوسناخ” التين تمكنتا من احتكار تمويل فرنسا بالقمح الجزائري طيلة سنوات حكم نابوليون (1804 ـ 1815). وهنا يتبادر إلى أذهاننا تساؤل مفاده: هل الديون المستحقة على فرنسا والتي كانت سبب في احتلال الجزائر ملك للجزائر أم للعائلات اليهودية ؟ ولتركيا الحديثة وريثة الإمبراطورية العثمانية مواقف مناهضة لطموحات الشعب الجزائري في الاستقلال والخلاص من الاستعمار الفرنسي، فقد ظلت تركيا وهي العضوة في الحلف الأطلسي تقدم الدعم لفرنسا الساعية لقمع الثورة والاحتفاظ بالجزائر كمقاطعة فرنسية. بل وصوتت في منظمة الأمم المتحدة ضد استقلال الجزائر. فمثل هذه الأوضاع يمكن النظر إليها على انها توابل الضجيج او النقاش الذي رافق زيارة الرئيس التركي. فما طبيعة وأهداف هذا النقاش المثار؟ ومن هي أطرافه؟
تراشق إسلاميي -علماني فرانكفوني و تيهان التيار الوطني؟
أثير خلال زيارة أردوغان للجزائر سجال حاد بين التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون) مرحب ومهلل وتيار علماني رافض ومندد. فهذا الأخير أي الرافض للزيارة لا يحبذ أي تقارب للجزائر مع تركيا بسبب الماضي غير المشرف للعثمانيين في الجزائر، وللدور التركي المساند والداعم للأحزاب والجماعات الإسلامية في مختلف البلدان العربية والإسلامية، فضلا على دعمها لما يسمى ” المعارضة المسلحة” عفوا المنظمات الإرهابية الساعية لتكريس الفوضى ومن ثم إسقاط الحكومة السورية التي تقف حجرة عثرة في وجه تمرير المشروع العولمي الليبرالي. ففي هذا السياق كتب كمال داود المثير للجدل يقول :”باسم كل الذين قتلت، وسجنت، وعذبت، أنت غير مرحب بك في الجزائر”، ومما كتبه أيضا، “نحن بلد دفع ضريبة الدم والدموع لأولئك الذين أرادوا أن يفرضوا علينا خليفتهم، لأولئك الذين أرادوا تمرير أفكارهم على أجسادنا، لهؤلاء الذين أخذوا أبناءنا كرهائن وقتلوا عقولنا ونخبتنا ومستقبلنا. وهذه العائلة التي تتدحرج بنا باسم الله أو الدين، أنت تنتمي إليها وتمولها، وتحلم بأن تكون قائدها العالمي.
ويرد عليه عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السلم ( إخواني الانتماء والتوجه ) والذي قال في منشور على صفحته في موقع فيسبوك: أقول مرحبا أردوغان، وألف مرحبا أردوغان، يبتهجون بزيارة ماكرون ويرفضون زيارة أردوغان: المسخ بعينه». وكتب في ذات السياق الصحفي بقناة الشروق الجزائرية دجير بلقاسم ، ” جمهورية قم تر لأن جمهوريتنا العظيمة لا تؤمن بالرئيس الشبح …. أعلن ولائي لهذا “القائد” الرمز. رجل “أدار” بوصلة تركيا 180 درجة اتجاه سلم الصعود في وقت “نحلم” بأن يخاطبنا الرئيس. بل في زمن ” يتساقط” فيه الرؤساء العرب بسبب ” تعفن” رؤوسهم .أهلا أردوغان “.
وبين هذين التيارين يقبع التيار الوطني – الذي يعتبر نفسه امتداد لثورة الجزائر العظيمة، الثورة التي أصبحت بفضلها الجزائر كعبة الأحرار والمتحررين- مذهولا يعاني حالة إرباك حادة بفعل شدة تأثير العالميون من الليبراليين والإسلاميين على فكرهم وخطابهم. فلم يعودوا قادرين على مواجهة تحديات العولمة وأزماتها من الإرهاب والحكومات المتحالفة وهم يرون حصونهم وقلاعهم تتهاوى في أكثر من بلد في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا. كان على هذا التيار أن يضبط إيقاع السجال في اتجاه بوصلة كعبة الأحرار أولا وأخيرا ، وفي ظل ما يخدم مصلحتنا ومصلحة حلفائنا ووفق إستراتجية ربط القضايا ،
أردوغان الاستثمارات الاقتصادية المدخل
تذكر وسائل إعلام أن أكثر من 800 مؤسسة اقتصادية تركية متمركزة في الجزائر، وقد وصلت استثماراتها إلى حوالي أربعة مليارات دولار، في قطاعات النسيج والصيدلة والحديد. ومما تتوخاه الحكومة التركية رفع الحجم التجاري إلى 5 مليارات دولار في مرحلة أولى ثم 10 مليارات.. أما الاتفاق الثاني فيخص مذكرة تفاهم وتعاون بين المجمع النفطي سوناطراك والشركة التركية بوتاس في مجال النفط. كما تم التوقيع أيضا في قطاع المحروقات على مذكرة تفاهم وتعاون بين شركة سوناطراك الجزائرية والشركتين التركيتين “رونيسونس″ و”بيغان”. فضلا على إلغاء التأشيرات التي سوف تساهم في تسهيل تنقل الاشخاص والمستثمرين.
هل من تأثير جزائري على التورط التركي في المأساة السورية؟
تبعا للمبادئ التي تستند اليها المقاربة الجزائرية حيال الازمات والنزاعات ( الحل السلمي وعدم الانخراط والتدخل في الشؤون الداخلية للدول) فهي تختلف إن لم أقل تتناقض مع السياسة الخارجية التركية. فعلى سبيل المثال دعت الجزائر منذ البداية إلى حل النزاع السوري بالطرق السلمية والتحذير من التعاطي مع المنظمات الإرهابية، ويبدوا ان تركيا لم تستمع لنصائح أصدقائها ( في تقديري اردوغان لا يؤمن بالصداقة الدائمة في السياسة الدولية، قد يتحول 180 إذا ما تيقن أن مصلحته غيرت مكانها وموقعها). هذا ما يتضح من موقفه من إفرازات المأساة السورية . فحين تيقن أن أمن تركيا القومي أضحى مهددا بفعل الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لاكراد سوريا، حول بوصلة اتجاهه نحو محور روسيا الاتحادية إيران والعراق. وهي اليوم متورطة في نزاع مباشر مع الأكراد وقد يتحول إلى مستنقع يستنزف موارد قوتها ويحد من طموحاتها الإمبراطورية. ففي ظل هذا الوضع هل أسدت الجزائر نصائح لأردوغان – الذي صرح بان الجزائر واحة الاستقرار بل ويدرك أنها مفتاح إفريقيا بالكف عن تأجيج النزاع السوري والحد من دعم بعض الجماعات الإسلامية في ليبيا .
وأخلص إلى القول، أن النقاش هو نوع من التلهية عن الشروع الفوري في إصلاح وترميم تصوراتنا وإدراكاتنا ومؤسساتنا بما يساهم وبفعالية في تحقيق انطلاقة نحو المستقبل دون الانشغال بسماع الجعجعة التي لا تنتج طحين، وبما يكرس مبادئ سياستنا الخارجية في احترام سيادة الدول وحقها في تقرير مصيرها. أما الحكومة التركية وعبر زيارة أردوغان فهي تستهدف انطلاقا من الجزائر توسيع وتكثيف التواجد الاقتصادي التركي في إفريقيا بالموازاة مع تكوين فئات وشحنها إيديولوجيا في انتظار توفر الظروف المناسبة التي تزداد حضورا، لاستلامها الحكم لاسيما في ظل فشل وغياب مشروع وطني جزائري خالص يستمد فلسفته وروحه من جغرافية وتاريخ الأمة الجزائرية العريقة. مشروع متجدد يستجيب ويستوعب طموح وأمال أجيال ما بعد العولمة في التداول السلمي للحكم وفي حرية الاختيار والتعبير و الرفاه.

التعليقات معطلة.