زيارة البابا فرانسيس التاريخية للعراق (الأهمية والدلالات) صناعة جديدة للسلام في العراق

1

مسرور اسود

الجمعة 26 شباط / فبراير 2021.

في حدث تاريخي هو الأول يستعد العراق لزيارة ذات أهمية ودلالات كثيرة، سيكون لها الأثر البالغ داخل العراق وخارجه، وهي زيارة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان التي طال انتظارها، وتجري الاستعدادات على قدم وساق من أجل استقبال الحبر الأعظم الذي يحمل رسالة سلام للعراق والمنطقة بأكملها، والتي تعد بمثابة صناعة جديدة للسلام.

تعد هذه الزيارة المنتظرة للفترة 5 – 8 من آذار المقبل الزيارة الأولى للبابا فرانسيس للخارج بعد تفشي جائحة كورونا، سعيًا لتحقيق رغبة سلفه الراحل البابا يوحنا بولس الثاني، الذي كان يعتزم زيارة العراق ومدينة «أور» العراقية عام 2000م، والتي يعتقد أنها مكان ميلاد نبي الله إبراهيم عليه السلام، ضمن رحلة حجة إلى الأراضي المقدسة في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر، إلا أن الظروف وقتها حالت دون ذلك، فقام بحج «روحي» إلى بيت إبراهيم من خلال إقامته للصلاة أمام أيقونة إبراهيم في الفاتيكان.

تأتي هذه الزيارة محملة بالأهمية والدلالات المتعددة، فهي زيارة سلام ومحبة في رسالة أمل يحملها البابا معه إلى العراق الجريح الذي اكتوى بنار الحروب والصراعات على مدار السنوات السابقة، في إصرار كبير لزيارة بلد مهم يضم مكونات عرقية ودينية متنوعة، يعد محطة سلام ستلقي بظلالها على المنطقة العربية كلها.

في وجهة نظري تنبع أهمية هذه الزيارة من اختيار الزمان والأماكن المرتقب أن يزورها البابا، فهي تمثل في هذا التوقيت بالذات دعمًا للشعب العراقي بكافة مكوناته المتنوعة، وتثبت بزيارته لبغداد أن العراق أصبح مستقرًا وآمنًا لحد يسمح بزيارة البابا له وتمثل رسالة قوية لدعوة المجتمع الدولي لدعم استقراره واعادة اعماره كانت صور العراق خلال السنوات الماضية في الإعلام المحلي والاقليمي والعالمي هي صور للحروب والقتل والتفجير الذي تقوم به جماعات التطرف والإرهاب من داعش وأخواتها، ولكن مع زيارة البابا فرانسيس للعراق سيتحول المشهد الذي ستلتفت إليه أنظار العالم إلى صور باسمة يملأها الأمل في مستقبل أفضل وأكثر استقرارًا ومحبة وسلام.

أما الأهمية المكانية فتأتي في انتقاء الأماكن التي اختارها البابا لتكون محطات في زيارته، وهي تحمل في تنوعها ورمزيتها دلالات مهمة ورسائل واضحة، وهي أن البابا إنما جاء لتعميق قيم الشراكة والعيش المشترك والتسامح بين كافة الأطياف العراقية، ولفتح صفحة جديدة نحو عراق قوي ومستقر و متصالح ومتآخي على كافة الأصعدة.

ومن المرتقب بحسب المعلن من الفاتيكان أن الحبر الأعظم سيزور عدة مدن مهمة وهي: بغداد، و»أور» المدينة المقدسة في محافظة ذي قار التي يعتقد أنها مسقط رأس نبي الله إبراهيم عليه السلام، كما سيزور «الموصل» الحمدانية و»قرقوش» في محافظة «نينوى»، وإقليم كردستان – أربيل.

أما زيارته لـ «بيت إبراهيم» في «أور» وهي مدينة أبو الأنبياء فتقدم رسالة قوية لتعزيز العيش المشترك بين كافة الأديان والمذاهب في العراق، وتقول بأن الله الذي خلق الإنسان واحد، وأن السلام والوئام هو الأصل الذي يجب أن نكون عليه.

وفي زيارة البابا الحبر الاعظم للنجف الأشرف ومقابلة المرجعية الدينية العليا سماحة السيد علي السيستاني دلالة مهمة، فهي الزيارة الأولى في التاريخ للحبر الأعظم للكاثوليك لحوزة النجف الاشرف، وتنبع أهميتها كذلك من لقاءه بالسيد السيستاني ذو التأثير الكبير في العراق، مما ينعكس بشكل إيجابي على تعزيز قيم الحوار والعيش المشترك عموما بين العراقيين وبين المسلمين والمسيحيين في العراق خصوصاً، خاصة إذا ما تم توقيع البابا والسيد السيستاني لوثيقة «الأخوة الإنسانية» وهي نص متعدد الأديان يدين التطرف ويدعو إلى الوئام والسلام والمحبة بين البشر جميعًا.

بينما تأتي زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية للموصل وقرى سهل «نينوى» الحمدانية والقوش في رسالة تشجيع للمهجرين والنازحين من تلك المدن التي اكتوت بنار داعش والتطرف على مدار السنوات الماضية، حيث احتل تنظيم داعش المدينة بين العامين 2014 و2017، وتم تهجير المئات من العائلات المسيحية التي لم يعد أغلبها إلى المنطقة منذ ذلك الحين وغادرت قسم كبير منهم العراق وان هذه الزيارة سوف تعزز الثقة بالبقاء في مناطقهم ومدنهم والحيلولة دون رحيلهم ومساهمتهم مع اخوتهم العراقيين في بناء العراق خاصة ان لهم بصمتهم الواضحة في تأريخ العراق ويمثلون جزءا حيويا في مجتمعه المتنوع وزيارته إلى إقليم كردستان العراق – أربيل التي بمثابة رسالة شكر للمدينة التي احتضنت أكثر من مليون ونصف المليون نازح من الفارين من نيران التنظيم الإرهابي، فضلًا عن تواجد العديد من الأديان والمكونات الاثنية والطوائف يعيشون معاً منذ عقود بكل حرية ومحبة ووئام إن هذه الزيارة لبابا الفاتيكان هي في الحقيقة لحظة استثنائية وفارقة في مستقبل العراق، كونها تحمل في طياتها رسائل ودلالات مهمة، كما أنها تلفت أنظار العالم كله نحو العراق الجريح وتمثل دعمًا لمسيحيي العراق، بل والعراق أجمع بكافة مكوناته الدينية والاثنية الاساسية (العرب والأكراد والتركمان).

وانعكاس زيارة البابا فرانسيس إلى العراق وإن كان بالدرجة الأولى يصب في إطار الوئام والسلام والعيش المشترك، إلا أن لها انعكاسات إيجابية أخرى على المستوى الاقتصادي والسياحي، فهي تلفت الأنظار الدولية إلى أماكن دينية تاريخية سيقوم بزيارتها مثل بيت إبراهيم في مدينة «أور» التاريخية وكذلك كاتدرائية سيدة النجاة وما يوسف في بغداد وغيرها، مما يجعل الفرصة مهيأة لأن تكون تلك الأماكن قبلة للسياحة الدينية المسيحية من مختلف دول العالم، مثلما أصبحت مراقد أهل البيت قبلة للسياحة الدينية الإسلامية لدى الشيعة من مختلف أنحاء العالم.

إن تاريخ العراق غني وفريد، ساهم فيه كل الأديان والعرقيات والمذاهب التي مثلت ثراءً داخل المجتمع العراقي، فهم بُنَاته الحقيقيين، حيث تشاركوا سويًا في صنع التاريخ بكافة مراحله فكانت العراق في كثير من العصور في ازدهار حضاري منقطع النظير، عندما كانت كافة مكونات المجتمع في وئام ومحبة وسلام، حتى أن الحكام قديمًا استطاعوا أن يستفيدوا من هذا التنوع الديني والاثني بشكل إيجابي، فكانت بغداد يتجاور فيها المساجد مع الأديرة والكنائس ومعابد اليهود، وكان المجتمع يسوده التسامح والأخوة والسلام.

نحن في حاجة في العراق بل في وطننا العربي أجمع إلى مثل هذه الزيارات المهمة لقادة الأديان، كزيارة البابا فرانسيس، وكلنا أمل أن تسهم هذه الزيارة الاستثنائية في تكريس مناخ من الاستقرار والوئام وجمع الشمل، الذي يُعيد العراق إلى دوره الاستراتيجي وأهميته الإقليمية والدولية، ويضع أسس جديدة للحوار في المجتمع العراقي بين جميع الطوائف مبنية على قبول الآخر والتسامح ومواجهة خطاب الكراهية والتطرف.

وكلي أمل أن تكون هناك زيارة مشابهة لفضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، لما له من مكانة كبيرة بين المسلمين في العالم أجمع، سيكون له بالغ الأثر في إذابة جبل الجليد بين أتباع الأديان والعرقيات المتنوعة، ونشر المحبة والتسامح في المجتمع العراقي. 

التعليقات معطلة.