في ظل الأوضاع المعقدة التي يمر بها العراق، يأتي النفوذ الإيراني المتزايد على أرضه ليضع البلاد أمام ازدواجية النفوذين: النفوذ الأمريكي من جهة، والنفوذ الإيراني من جهة أخرى. زيارة الرئيس الإيراني الجديد إلى العراق لم تأتِ في فراغ، بل جاءت لتعكس صراع القوى الإقليمية والدولية على تحديد مصير العراق ومستقبله السياسي والأمني.
ازدواجية النفوذ: سياق تاريخي
منذ عام 2003 وسقوط نظام صدام حسين، أصبح العراق ساحة تنافس شديد بين إيران والولايات المتحدة. الولايات المتحدة تدخلت عسكريًا ووضعت بصمتها على تشكيل النظام السياسي الجديد في العراق، لكنها وجدت نفسها في مواجهة تمدد إيراني مستمر عبر دعم الفصائل المسلحة والتأثير على القرارات السياسية في بغداد. في هذا السياق، تعكس زيارة الرئيس الإيراني الجديد محاولة واضحة لتعزيز هذا النفوذ وترسيخه أمام التحديات الأمريكية والإقليمية.
زيارة الرئيس الإيراني: الغايات ولأهداف في ظل النفوذ المزدوج
الزيارة تأتي في ظل تصاعد التوترات الإقليمية ومحاولة إيران تأكيد أنها اللاعب الرئيسي في العراق. من الواضح أن هذه الزيارة تحمل عدة رسائل، أهمها:
- تعزيز التحالفات الداخلية: تسعى إيران لتأكيد نفوذها من خلال دعم القوى والفصائل الموالية لها في الداخل العراقي، ما يعزز دورها كلاعب لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات سياسية أو أمنية في العراق.
- إرسال رسالة إلى واشنطن: طهران تهدف إلى التأكيد على أن أي محاولات لتقليص دورها في العراق أو في المنطقة ستواجه بمقاومة شديدة، وأن العراق يمثل جزءًا استراتيجيًا من مشروعها الإقليمي.
- التأكيد على العلاقات الاقتصادية: في ظل العقوبات المفروضة على إيران، يبقى العراق متنفسًا اقتصاديًا مهمًا لطهران، وبالتالي تسعى إيران لضمان استمرارية هذه العلاقة التجارية والاقتصادية.
الموقف الأمريكي: تحديات وتوازنات
الولايات المتحدة، من جهتها، لا تزال تتمسك بنفوذها في العراق، سواء من خلال وجودها العسكري أو دعمها للحكومة العراقية. ومع ذلك، فإن واشنطن تجد نفسها في موقف صعب، حيث تحاول تحقيق التوازن بين مواجهة النفوذ الإيراني والحفاظ على استقرار العراق. الإدارة الأمريكية الحالية تميل إلى استخدام الدبلوماسية والحوار مع إيران فيما يتعلق بالملف العراقي، لكنها في الوقت ذاته ترفض التخلي عن وجودها العسكري وتأثيرها السياسي في العراق.
العراق بين المطرقة والسندان: مستقبل غير واضح
إزاء هذه الأزدواجية في النفوذين، يجد العراق نفسه في وضع معقد. من جهة، النفوذ الإيراني المتغلغل داخل مؤسساته وفصائله المسلحة يجعله ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية. ومن جهة أخرى، الوجود الأمريكي المستمر يفرض على العراق خيارات صعبة في رسم ملامح مستقبله.
التحديات التي تواجه العراق:
- فقدان السيادة الوطنية: العراق يجد نفسه مكبلاً بين قوتين تسعيان لتكريس مصالحهما على حساب استقرار البلد وسيادته. هذا التنافس يجعل الحكومة العراقية غير قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة تنسجم مع مصالح الشعب.
- انقسام داخلي: النفوذ الإيراني المتزايد، من خلال دعم الفصائل المسلحة، قد يزيد من حالة الانقسام الداخلي بين القوى الموالية لإيران وتلك التي تسعى إلى الحفاظ على استقلالية العراق وعلاقاته مع الغرب.
- مخاطر التصعيد العسكري: العراق قد يصبح ساحة حرب بالوكالة إذا تفاقمت التوترات بين إيران والولايات المتحدة، وهو ما يهدد أمنه واستقراره. أي صراع إقليمي بين إيران والولايات المتحدة أو إسرائيل سيضع العراق في خط النار.
مصير العراق: إلى أين؟
في ظل هذا التنافس الشديد على النفوذ، تبقى مستقبل العراق مرهونًا بقدرته على إدارة هذا الصراع الداخلي والخارجي بحنكة ودبلوماسية. إلا أن التحديات تبقى كبيرة أمام الحكومة العراقية، التي تجد نفسها مضطرة للانحناء أمام الضغوط الإيرانية والأمريكية، وهو ما يعقد قدرتها على تحقيق الاستقرار الداخلي.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل العراق:
- استمرار حالة النفوذ المزدوج: في هذا السيناريو، سيظل العراق ساحة تنافس إيراني-أمريكي مستمر، مما سيبقيه في حالة من الاضطراب السياسي والانقسام الداخلي. قد يحاول العراق التعايش مع هذا الوضع وتقديم بعض التنازلات للطرفين من أجل الحفاظ على استقراره النسبي.
- تزايد الهيمنة الإيرانية: إذا نجحت إيران في تعزيز نفوذها بشكل أكبر داخل العراق، فقد نشهد تحولًا نحو هيمنة إيرانية شبه كاملة، مما سيؤدي إلى تقويض الوجود الأمريكي تدريجيًا. هذا السيناريو سيزيد من عزل العراق عن محيطه العربي وقد يدفعه نحو مزيد من الاعتماد على إيران.
- محاولة الاستقلال والتوازن: قد تسعى الحكومة العراقية في المستقبل إلى تحقيق توازن بين النفوذين الإيراني والأمريكي، من خلال تبني سياسة خارجية مستقلة تسعى إلى تحسين علاقاتها مع الدول العربية والغربية مع الحفاظ على علاقات محدودة مع إيران.
يبقى مصير العراق في ظل ازدواجية النفوذ الإيراني-الأمريكي محاطًا بالغموض. فالبلاد تقف على مفترق طرق حاسم بين الاستمرار في كونها ساحة صراع إقليمي أو البحث عن طريق جديد يحقق لها الاستقرار والسيادة. تبقى التحديات هائلة، ولكن الرهان على تحقيق توازن داخلي قد يكون هو المفتاح لضمان مستقبل أكثر استقرارًا للعراق.