زَحْفُ الغُرْبَة

1

 
 
علي عقلة عرسان
 
يَدفُقُ ليلُ الغُربة، يزبدُ سيلُه..
يبلغُ سقفًا أقصى في مجراه..
ينشرُ دمَّ الجُرحِ.. يصيرُ الدَّمُّ مَداه..
يَصبغُ أفقَ العمرِ نَجيعًا..
نَجيعًا.. كان كَلامًا حُلوًا..
كان رفيفَ أمانٍ، كان حياة..
كان، وصار.. وصارَ..
يرخي، في الليل، عِنانَ الألمِ البالغِ حدَّ الحدِّ..
فيوغِل ومضُ الدَّمِّ.. يغوصُ، ويغمسُ ذاتَه في أقصاه..
هناك.. يموجُ، ويعصفُ مثل سِواه..
في عمقِ الصَّمتِ الحاضنِ سيلَ اللَّيلِ يَموجُ..
تموجُ الغُربْة في مَثواه.
وحولَ الرُّوح شباكٌ تَضغط ضغطَ اللَّحدِ..
يضيق الصدرُ، يضيق الكونُ، تموجُ الغُرْبَة..
تفري الكَبِدَ، وتكوي الآهُ..الآهَ..
أَيا.. ويلاه..
عندَ القدم الأولى.. يسقطُ نجمٌ.. نجمي،
يذبلُ، يذوي..
يا الله..
أشلاءُ نجومي تفرُط، تهوي..
يُطْفَأُ وهجُ الوَقتِ.. ويَطغى الليلُ..
تموجُ الغُربة..
كانت تلك ثُريَّا العمر، تضيءُ..
كانت أملًا.. فَلَكًا عبرَ فضاء الوقت،
تنيرُ القلبَ، العمرَ، الدربَ، الّليلَ..
وكانت..
كانت..
كانت.
ـ ٢ ـ
في التيه…
يستقوي الليلُ على شمعِ توقدُهُ الرُّوح،
يَسْخَطُه بريحٍ جمع قبضته الأقوى…
يستقوي الليلُ على شمعي الرَّخْوِ…
يدُقُّ الدربَ ورائي نزفُ خطاه…
ونزحفُ عبرَ زمانٍ يزحفُ..
نرجفُ، نزحفُ.. عبرَ جراح قلوبٍ نزحف..
بين بريق سيوف تهوي فوق عيونٍ ذَهلَى، تذهَل،
يبرق فيها القهرُ وتذوي..
مثل فُتاتِ براعم وردٍ تسقطُ، تذوي..
تفرشُ دربَ الوقتِ أنينًا..
ينبضُ قلبُ الصَّمتِ..
خطوُ اللَّيلِ ورائي..
الساعةُ قصفٌ، زمنٌ يعبثُ، يصهلُ، يزحف..
ألهَثُ..
أقدامي تلهثُ ملء الدَّربِ.. تعثر..
يرِنُّ الرعب رنينَ القدر القاهر..
هذا زحفٌ يرفع سيفًا، يمشي في أنسجةِ القَلْب،
تغدو الأرض، بظلِّ زحوفهِ، غير الأرض،
تفقد لونًا.. طَعمًا كانَ يشدُّ إليه الرُّوح،
ويقبضُ أحشاءَ الأعماق.
الأرضُ تهجرُ معنى الأرض،
تصيرُ حَنينًا مُرًّا، يجذبُ جسمًا يغرق في أحشاءِ الوقت،
جسمًا تأكلُه الدُّنيا، إذْ يأكلُ كتفَ الدُّنيا.
سيفُ الغُربة يبدأ رعشتَه السَّكّارَة قبل الفتك،
وأنا الخوفُ الجارفُ،
كلّ الخوف الجارف.
فالعمر ثوانٍ معدوداتٍ،
صعبٌ أن يقضيَها المرءُ على أجفانِ الخوف طوال الوقت،
تصعقُه الصحراءُ.. الغُربة.
لي في الأرضِ الخصبة زرعٌ، أحرصُ أن يشتدَّ ويكثُر،
ولي في الأرضِ عيونٌ ترنو من أعماق الزَّمنِ الغابر..
عيونٌ تبعث وعدًا يبرق في الآفاق،
تنبِتُ صبحًا..
تربط حَبلي بالماضين،
وتجعلُ عمري أطولَ من خيط الضوء القادم من رحمِ الشَّمس منذ سنين،
تجعله في عمرِ الضوءِ، وعمرِ الشَّمس،
فأنا الآخرُ إذ يَحيا
وأنا حيٌّ في مَنْ يَحيا.
لي في الأرضِ، ولي في الأرضِ، ولي في الأرضِ…
ولكن.. لكن..
ها قد هطلَ الخوفُ.. العجزُ.. وخيَّم ليلُ الغُربة.
ـ ٣ ـ
يسحبُني من كَفِّي “جِلْجَامِش”
نغْدو ملءَ الأرضِ، نشيدَ حنينٍ نغدو،
توقًا يحيا في الآتين.
يسحبُني خلفَه.. نمشي.. نمشي..
من “أوروك” إلى” صَيْدون”، إلى “جَيرون”..
من سيفِ الصَّوان إلى صبحِ الصاروخ…
نمشي.. نمشي.. نبكي.. نمشي..
دمعًا نغدو، يُغرِقُ كلَّ جفونِ الأرضِ، عيونَ الأرض..
ونعبرُ كهفًا.. صمتًا مزروعًا رُعبًا.. مَوتًا..
نَفْرَقُ.. نَهربُ.. نعبرُ قصرًا يزهرُ في أحيائهِ موتٌ..
نعبرُ رعبَ الأرض، الناس، الوقتِ.. ونبقى..
ننشدُ ملء الكون نشيد الفرح الأول،
نشيد العيش الأول..
“….. يا موتَ الحيِّ، كئيبٌ أنتَ…..
كئيبٌ موتُ الحيِّ…
يسيرُ، يجرُّ النِّيرَ، الموتَ.. ولكن يحيا…
كيفَ، وكيف، وكيف..
يظلُّ يجرّ الموتَ ويحيا..؟!
يزرعُ أرضَ اللهِ حياة.. تيهًا.. أملًا، رعبًا.. موتًا.. لكن يحيا!؟!
يا لعجيبٍ يسحب كبش الموت من القرنين.. ويحيا!؟
نعبرُ أرضًا قفرًا.. جبلًا.. وَعَرًا.. تيهًا…
جِنِّيَّاتُ العيشِ تَنُوشُ خُطانا…
نركضُ.. نهدأ… نركضُ… نهدأ… نركض..
يبقى الخطوُ ورانا…
يبقى سيفٌ يقطرُ ليلًا، فوق جبيني
سيفٌ أُسْقِيَ أمرًا، قَدَرًا.. أُسْقِيَ مَوتًا..
أشكو الناسَ إليهِ، يشكو الناسَ إليَّ..
يركض عبري،
نبقى شعاعًا ينفذُ في الآفاقِ، وفي الأعماق،
أشكو.. يشكو،
أركضُ.. يركضُ،
أغرقُ.. يغرقُ،
أحكي.. يحكي..
نصيحُ بملء الصَّمتِ:
“خائفان من الموت نجوب السهوب
وقد أقضَّت مصيبةُ أخي مضجعي
كيف أسطيع السكوت، وكيف أحتمل الموتَ ساكتًا؟!
صديقي الذي أحبُّه عادَ إلى الطِّين،
هل يتوجَّبُ عليّ أنا أيضًا أن أرقدَ مثله في الطين؟!
ارقدُ.. لا أستيقظ أبد الآبدين” ؟!()
لا مِرْيَة في حق..
لا مرية في حق..
لا مرية في حق.
ـ ٤ ـ
” جِلْجَامِش” يعرفُ أن السَّيرَ وراءَ الأكبَرِ، وهمٌ أكبرْ،
يعرفُ أنَّ الشِّدَّةَ تذوي مثل الوردة،
يعرفُ أن الشِّدّة تولَدُ مثل الوردة أيضًا،
يعرفُ… يعرفُ..
يذكُرُ أن الغُربةَ تنثرُ حبلَ العمرِ فُتَاتًا،
يذكر أن الرحلةَ في المَجهولِ، ستفضي يومًا للمَجهول.
” جلجامش” يعرفُ طعمَ البَحرِ، وطعمَ الرّيحِ، وطعمَ البَرِّ، البحرِ،
ويعلمُ معنى زحفَ الغُربة.
يعلمُ أكثر مني.. يعلمُ أقدم مني… يعلمُ.. يعلمْ.
لكن.. رغم العلمِ الأقدمِ، يمضي في المَجهول بعيدًا..
يصولُ.. يجولُ.. يحول.. يقول..
يشدُّ حريرَ شجوني عبرَ جراحٍ من صَبَّارِ الحَلْق،
وعبرَ شجونِ الخَلْق،
ويسحبُ أحلامي خلفَهُ فوق العُلِّيق.. ويمضي!!
“أوقفْ زخمَ خطاكَ قليلًا يا ” جلجامش”،
دعْ خطوي يستوعب دربي،
دعني أهطُلُ دمعًا من عرنين الأنفِ،
دعْني، دعْ قلبي ينشُجُ فوقَ الكتفِ..
وريِّح قلبي..
دعْه ينزف ألمًا بكرًا، فوق الرملِ الأصفَرِ،
رملِ الحُلمِ الأغْبَر..
دع نفسي تشوي كبدي فوق الرمضاءِ، أحسّ رنين إرادةْ،
دعني أبصرُ حتفي، عبر الوقتِ، وأخفي خَوفي.
لا تسحب أمسَكَ فوقي..
يا ” جلجامش”، لطفًا..
بعضَ زمانِك هَبني…
هبني بعضَ ودادك..
بعض وجودٍ يؤنسُ ليلَ الغُربةِ حولي..
لا تهجُرْني عبر التيهِ وتمضي عني،
يا جلجامش..
الغربةُ سيفُ الغيبِ، وسيفُ القهرِ،
وظلُّ المجهولِ، وأكبر..أكبر.. أكبر.
والغربةُ تمطرُ في أحشائي الموتَ،
وتمطرُ بعدَ الموتِ، الموتَ وأكثر،
ترفعُ سترَ الوجهِ الميت، وتندُفُ ورْسًا…
تنمو فِطرًا صَوَّانيّ اللَّون،
يُكاثف فيَّ الكونَ فُطورًا تَنمو…
تخطفُ حُبّي للأحياءِ…
وتخطف كوني في الأحياءِ..
وتخطفُ من حولي الأحياءَ..
وتنمو.. تنمو.. تنمو..
الغربةُ تكبرُ بالأحزانِ، وتملأ جوفَ الآن، الآن..
وتغدو أقسى من طُغيانٍ.. من سَجَّانٍ في صحراءِ الوقتِ،
يدوسُ الناسَ بلا إحساس.
الغربةُ تعصِفُ في الآفاق، أراها لونًا في الأحداقْ،
كتيمًا يبدو لونُ الغُربة في الأحداقْ،
تعرِّش بين القلب، وحب القلب،
وتغدو قوقعة في الناس،
فيا للغربة من فانوس يرهق قلبي سيرًا أعشى
يا للغربة مِن.. مِن ليل يَغْشى!؟!
ما عاد يساعدني في دربي ضوءُ المِصباحْ…
راحَ المِصباحْ..
راحَ الصبحُ، وراحَ الضوءُ، وراح.. وراحَ.. وراح..!!
ـ ٥ ـ
يا شِقَّ الرُّوحِ، شقيقي، الذاهب في ملكوت الله..
إليَّ، إليَّ، إليّ..
مدَّ يديكَ، الطُّهرَ، إليَّ…
خَلِّصني من قيد الغُربة، يربطني في عرش الليل،
يا طِفلًا يحبو في الجنة،
مدّ ظلالَك نحوي.. تخضرّ الصحراءُ وتزهر…
فالصحراء تَوِجّ بلمعِ الرؤية، إن تُشرقَ أنتَ.
مدّ يديكَ.. مدَّ يديك..
الرؤية أنت.. الرؤية.. أنت..
خلاصة سعيي أنت..
مدّ تخومَك نحوي، قبلَ مجيء تخومِ الغُربَة..
يا مغسولًا بالدمعِ، وفيضِ الألمِ البكرِ، وحبِّ الناس،
ويا محروقَ القلبِ بجمرِ العيشِ، وغدرِ الناس
مدّ تخومك نحوي.
أعرف أنه لم أحمِ القلبَ الطفل، ولم أحمِ الجُثَّة…
لم أحمِ العهدَ.. ولا حتى الطيفَ الزائرَ في رؤيا ليلْ..
أعرفُ عَتَبًا مُرًا، يزهرُ في عينيكَ، وأعرفُ..
أعرفُ.. أعرفُ.. أعرفُ.. أعرف..
لا ترسلْ غَضَبًا نحوي.. لا تصْعَقْني.. لا تعتب موتًا،
بلْ أرسلْ بسمتك اللمَّاحةَ بالأسْرار،
خذْ أسراري.. خفِّفْ ناري،
قبلَ يباسِ القلبِ، وفقدانِ الأسرارِ، بدارِ الهِجْرَة،
أرسلْ بسمتَك اللَمَّاحةَ بالأسرارِ.. وخذْ أسراري،
ضاقت نفسي بالأَسرار،
أطفئ ناري، ضاقتْ أحشائي بالنار.
أرسل ظِلَّكَ فوقَ سمائي،
مَرْمَرَ مائي.. في صحرائي،
والصحراء رجاها الماء..
فصلُ الغربةِ صارَ فصولًا تَترى
تزحفُ نحوَ صفاءِ الصُّحْبَة …
وأنا في الأسْرِ غَريبْ،
أنقذني يا خيرَ حبيبْ.
الغربةُ موتُ الحيِّ..
وأنتَ الميتُ الحيُّ،
وأنت الموتُ، حبيبٌ
أنت الموتُ، قريبٌ.
فلتمدُدْ كفَّ الطُّهْرِ إليّ.. يا مغسولًا بالأنوار،
فأنا أخشى موتَ الأحياء وهم أحياء،
أكثر مما أخشى الموتَ، وزَحْفَ الموتِ على الأحياء.

التعليقات معطلة.