بين صناديق أُفرغت من المعنى ومقاطعة لا تُغيّر
لم يعد سؤال “ننتخب أم لا؟” ترفًا سياسيًا أو اجتهادًا ديمقراطيًا. إنه اليوم انعكاس حاد لأزمة ثقة وطنية، تُخيم على المزاج الشعبي العراقي منذ سنوات. فالعراقي الذي جرب كل وجوه النظام السياسي بعد 2003، عاد إلى المربع الأول يسأل نفسه: هل المشاركة تُصلح؟ أم أن المقاطعة تحمي الكرامة وتمنع شرعنة الفشل؟
صناديق لا تُقنع أحدًا
منذ أول انتخابات في ظل الاحتلال، بدا أن العملية السياسية تسير نحو ديمقراطية شكلية أكثر منها حقيقية. الوجوه تتغير بالأسماء لا بالنهج، والنتائج محفوظة سلفًا ضمن توازنات طائفية ومحاصصاتية، والقوانين تُفصّل على مقاسات الكتل النافذة.
وهكذا تحوّل التصويت، من أداة تغيير، إلى طقس مكرر لا يقنع أحدًا. صار الناس يدركون أن الصندوق وحده لا يفي بالغرض، إذا كانت المفوضية غير مستقلة، والقانون ظالم، والمال السياسي فاسد.
المقاطعة: رسالة أم استسلام؟
على الجانب الآخر، يراهن كثير من الشباب والناشطين على المقاطعة بوصفها موقفًا وطنيًا واعيًا. لكن دون إطار موحّد أو بديل سياسي منظم، تبقى المقاطعة سلاحًا غير فعّال.
بل إنها – في بعض الأحيان – تمنح القوى المتسلطة فرصة أكبر لتعبئة جمهورها التقليدي، وتقليل نسب المشاركة، ثم الادّعاء بامتلاك “الشرعية”. الخطورة ليست في المقاطعة ذاتها، بل في أن تكون صرخة معزولة بلا صدى سياسي.
بين فشل المشاركة وعقم الانسحاب
العراقي اليوم محاصر بين خيارين كلاهما مريب:
أن يُشارك وهو يعرف أن نتائج الانتخابات لا تُعبّر عن إرادته.
أو أن يقاطع وهو يدرك أن غيابه لن يُحدث خلخلة حقيقية في المعادلة.
هذا الانسداد السياسي يُعيدنا إلى أصل المشكلة: غياب المشروع الوطني الجامع، واحتكار الساحة من قبل قوى فقدت ثقة الناس، لكنها ما تزال تملك أدوات السلطة.
فراغ الراعي وانقلاب ناعم
الانتخابات المقبلة لا تأتي في فراغ، بل في لحظة إقليمية ودولية متقلبة. الولايات المتحدة – التي كانت لسنوات المظلة الضاغطة على اللاعبين المحليين – قررت الانسحاب من بغداد، تاركة فراغًا خطيرًا.
هذا الفراغ لم يواجهه مشروع وطني، بل استغلته الفصائل المسلحة لتتحرّك بلا رادع، ولتُحوّل الشارع إلى ساحة مفتوحة لسطوتها.
مرحلة الفرز أصبحت أوضح من أي وقت مضى: لا وجود لتداخل أو توازن بين قوى متنافسة، بل مسار واحد يقوده مشروع إيراني يسعى إلى “انقلاب ناعم” من داخل العملية الانتخابية نفسها. فبدل أن تُنقّي صناديق الاقتراع الدولة من السلاح، يجري التحضير لشرعنة الحشد الشعبي وإدماجه كقوة سياسية وعسكرية رسمية، لتتحول الدولة إلى كيان مُعسكر تُسيطر عليه منظومات عقائدية مرتبطة بالخارج.
بهذا المعنى، الانتخابات لم تعد مجرد سباق مقاعد، بل وسيلة لإعادة صياغة السلطة على مقاس طرف واحد، وتثبيت واقع الهيمنة. وهنا يتضاعف قلق العراقي: إذا صوّت فهو يمنح شرعية لانقلاب ناعم، وإذا قاطع فهو يترك الساحة فارغة ليستكمل الآخرون مشهد السيطرة.
على القوى المدنية أن تستدرك
إذا كان الشعب ممزقًا بين المشاركة والمقاطعة، فإن القوى السياسية التي ترفع شعار الوطنية والمدنية تتحمل مسؤولية مضاعفة. فهذه القوى التي طالما قدّمت نفسها بديلاً عن الطائفية والفساد ، تجد نفسها اليوم أمام اختبار حقيقي إما أن تنسحب من انتخابات مفصّلة على مقاسات السلاح والمال، وإما أن تُصبح جزءًا من لعبة ملوّثة تُشرعن القادم الأخطر .
لقد حان موعد الاستدراك الوطني؛ لحظة تاريخية لا يجوز أن تُهدر بالمشاركة الشكلية . فانسحاب القوى المدنية من العملية السياسية برمتها قد يُعيد رسم المعادلة، ويكشف للعالم وللشعب أن ما يُحضَّر ليس ديمقراطية، بل استحواذ مقنّن. التورط في الانتخابات تحت هذه الشروط ليس مشاركة، بل تواطؤ يضر بالمشروع الوطني أكثر مما يخدمه .
الورقة تُخيف حين تتحول إلى وعي
الانتخاب بحد ذاته ليس المشكلة، بل ما يسبقه:
قانون انتخابي عادل؟
مرشحون من صميم الشارع؟
مفوضية لا تخضع للمحاصصة؟
أجواء تنافس حقيقية دون سلاح أو مال فاسد؟
عندها فقط تُصبح المشاركة موقفًا، ويُصبح الاقتراع سلاحًا بيد الشعب. أما في ظل الظروف الراهنة، فالصوت يُخطف قبل أن يصل، والصندوق يُدار قبل أن يُفتح.
من الحيرة إلى اليقظة
سؤال “ننتخب أم لا؟” لا يُجاب عليه بنعم أو لا، بل بإعادة بناء الثقة من الأساس. إذا ظل الشعب بلا تمثيل حقيقي، وبلا قيادة وطنية تُمثله وتُنظّم خياراته، فكل مشاركة ستُؤدي إلى مزيد من الإحباط، وكل مقاطعة ستتحوّل إلى هروب.
العراق لا يحتاج إلى صراخ مؤقت كل أربع سنوات، بل إلى مشروع وطني طويل النفس، يعيد الاعتبار للصوت، ويمنح الورقة الانتخابية وزنها الحقيقي. نعم، ننتخب فقط عندما نوقن أن الورقة في يد الشعب أقوى من المال والسلاح ودون ولاء ونفوذ خارجي.
الانتخابات ليست قدرًا… بل اختبار وعي