في السياسة الدولية هناك لحظات مفصلية لا تحتمل المراوغة أو التأجيل، حيث تتحول الساعات إلى مفاتيح لمصير أنظمة وشعوب. إيران اليوم تعيش تلك اللحظة الحرجة. فهي ليست أمام خيار سياسي عابر، بل أمام امتحان وجودي يضعها بين طريقين كلاهما يؤدي إلى السقوط: القبول بالشروط الدولية وما يرافقه من خسارة تدريجية لأوراق القوة، أو الرفض وما يعنيه من مواجهة عقوبات غير مسبوقة، وعلى رأسها عقوبات “سنام باك” التي تهدف إلى خنق الاقتصاد الإيراني حتى آخر أنفاسه.
منذ أربعة عقود اعتاد النظام الإيراني أن يوازن بين التصعيد والتفاوض، بين لغة “المقاومة” وواقع الحاجة إلى الانفتاح. لكن المعادلة تغيرت. روسيا المنشغلة بحربها الطويلة في أوكرانيا لم تعد قادرة على توفير مظلة حماية، والصين التي لطالما شكّلت شرياناً اقتصادياً لا تريد المخاطرة بمصالحها الكبرى مع الغرب من أجل إنقاذ طهران. أما الداخل الإيراني، فقد أرهقته الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية المتكررة، ما جعل النظام في أضعف حالاته.
القبول بالشروط الدولية يعني عملياً الانسحاب من المشروع النووي وتقليص النفوذ الإقليمي، وهو ما يفرغ الخطاب الثوري من مضمونه ويحوّل إيران إلى دولة محاصرة داخلياً بفقدان الشرعية. هذا القبول لن ينقذ النظام بقدر ما يفتح الباب أمام “موت بطيء”، يتآكل خلاله تدريجياً تحت ضغط التنازلات وفقدان الثقة الشعبية.
أما الرفض، فسيضع إيران وجهاً لوجه أمام عقوبات خانقة قد تكون الأقسى في تاريخها. وربما أمام عمل عسكري غير مسبوق. “سنام باك” ليست مجرد قيود اقتصادية، بل منظومة عقوبات متكاملة تستهدف النفط، التحويلات البنكية، والشبكات السرية التي اعتمدت عليها طهران للالتفاف على القيود السابقة. إنها حرب مالية شاملة تعني شلّ مفاصل الدولة وتحويلها إلى اقتصاد منعزل يفتقد القدرة على الصمود.
شبح العمل العسكري
إلى جانب العقوبات، يلوح في الأفق خيار العمل العسكري كأداة حاسمة لتسريع سقوط النظام الإيراني. فإسرائيل، التي ترى في المشروع النووي الإيراني تهديداً وجودياً، لم تخف نيتها توجيه ضربات مركزة للمفاعلات النووية والبنية التحتية العسكرية، حتى ولو أدى ذلك إلى مواجهة إقليمية واسعة. الولايات المتحدة، ورغم حرصها الظاهر على تجنب الحرب الشاملة، تبقي قواتها في المنطقة بحالة استعداد قصوى، في رسالة واضحة إلى طهران بأن العمل العسكري ليس مستبعداً. أي ضربة عسكرية – سواء محدودة أو واسعة – ستضاعف من عزلة إيران، وتكشف هشاشة دفاعاتها أمام الداخل والخارج، ما يجعل السقوط أسرع وأقرب مما يتوقعه النظام نفسه.
في هذا السياق، لم يعد السؤال عن بقاء النظام أو سقوطه، بل عن سرعة هذا السقوط: هل سيكون تدريجياً عبر موت بطيء ناتج عن القبول بالشروط، أم سريعاً ومفاجئاً عبر الانهيار الكامل تحت العقوبات والعزلة الدولية وربما الضربات العسكرية؟
المشهد برمته يشير إلى أن العدّ التنازلي قد بدأ فعلاً. لم يعد لدى طهران مزيد من الوقت ولا مساحة المناورة. الساعات القادمة ليست مجرد مفاوضات دبلوماسية، بل إعلان دخول النظام الإيراني في لحظة الحقيقة التي طال أجلها.
قبلت إيران أم رفضت، النتيجة النهائية واحدة: مشروع طهران النووي والطائفي الذي بدأ قبل نصف قرن يقترب من نهايته المحتومة، وما تبقى مجرد تحديد الكيفية… هل يطول زمن الاحتضار تحت العقوبات والتنازلات، أم يأتي الانهيار كعاصفة عسكرية واقتصادية تعصف بكل شيء دفعة واحدة؟