تركي الدخيل
ما سبب افتتان الناس بالحكمة، في شعر أبي الطيب المتنبي، تلك التي مَيَّزت شعره، عن شعر غيره، بمن فيهم من اشتهروا بشعر الحكمة؟!
الحكمة في شعر المتنبي، في مبانيها ومعانيها، صورٌ تجسِّد قواعد كتاب الحياة، وفقاً لأبي الطيب.
إنَّها حكمة المتغلّب المتمكن، لا حكمة الخاضع المسالم، ممَّا يوافق هوى النفوس، فهو يصيب حتى الخاضعَ المسالم، في حكمته، وإن لم يصرح به.
إنَّ نمطَ المتنبي في الحكمة، بحسب فهمي، هو نمط مستحدث في شعريته الحكمية، ومكمن استحداثه وجدته، هو ما أسميه: «واقعية توصيف معيشةِ الإنسان».
أزعم أنَّ واقعية المتنبي، لا تتضمن ما عند حكماء الشعراء، مثل أبي العتاهية قبله، وأبي العلاء بعده، من مثالية نظرية. إنَّها واقعية، جعلته محبوبَ متلقيه ورواتِه ونقاده وشُرَّاحِه، فديوان مثل «اللزوميات»، صاغه أبو العلاء، وهو حكمة خاضعة، مسالمة، مستسلمة، مع نقدٍ للدنيا، وأهلِها، وعقائدها، لكنَّه لم ينل عشرَ معشار، ما ناله شعرُ الحكمةِ عند المتنبي، من حفاوةٍ واحتفاء، نقلاً، وشرحاً، ورواية.
يشرح ما سبق، شكيب أرسلان (ت 1946م)، فيقول: «لا يوجدُ معنى تبحث النفسُ عنه، لتجد له قالباً لائقاً، إلا وجد الإنسان عليه بيتاً من شعر المتنبي، ففي هذا لا يباريهِ مُبَارٍ ولا يصطلي له بنار، ولا تأتي بمثله الأمصار، لا في شعراء العرب ولا في غيرهم. الحكمة هي المملكة التي أبت أن تُعطي لغير أبي الطيبِ قيَادَها».
إنه حين يقول:
الجودُ يُفقرُ والإقدامُ قتَّالُ
أو يقول:
وَمَا بَلَدُ الإنْسانِ غَيرُ المُوافِقِ
أو يقول:
إذا عظمَ المطلوبُ قلَّ المساعدُ
أو يقول:
وأَتْعبُ من نَادَاكَ مَنْ لاَ تُجِيْبُهُ إنَّما يجسّد واقعية الفقر، والشجاعة المرادة، في الإنسان، وواقعية مشاكلة الوطن للمستوطن، وإدراك أنَّ عظمَ المراد، لا توجد معه أعوانٌ كثر لنيله، وأنَّ من لا تجيبه، لم تجبه لإتعابه لك فيما مضى!
يندر أن نجدَ، أيها القارئ الكريم، مثلَ ما سبق، حكمة واقعية، يمكن الاستفادة منها، في بناء النفس، وهي حكمة واقعية، لا مثالية، ولا نظرية، في الشعر العربي، القديم، والحديث!
في حكمته، يهجمُ المتنبي، على المعنى:
ومِنَ البليَّةِ عذلُ منْ لا يرعويْ عن غَيِّهِ وخطابُ منْ لا يفهَمُ فمن لا يرعوي، لا يعذل، بواقعية حكمة الحياة، ومن لا يفهم، مخاطبته بلية. هذه الواقعية، تأخذ بمجامع القلوب، لأنَّها نابعة من معيشة الناس، وليست دعوة مثالية يصعب على الناس التقاطها.
وتتبيَّن حلاوة البيت السابق، عند تطبيقه، إذ يوافق هوى النفوس المتألمة، ممن لا يرعوي، وممن لا يفهم.
بمرافقتي ديوان المتنبي، وشروحه، وجدتُ الحكمة، التي يصوغها بإبداع في المعنى والمبنى، يزيد وهجها، واقعيتها، فمن يسمعها، يربطها مباشرة، بما يطابقها، من أحداث حياته، أو يرى إمكانَ تحويلها أفعالاً وممارسات.
ذلَّ من يغبط الذليل بعيش ربَّ عيشٍ أخفُّ منه الحمامُ
فالعيش الذي أخف منه الموت، ليس مغبوطاً، إلا من الذليل، الذي لا يملك إلا حسد الأحياء، أياً كانت حياتهم.
إنَّه معنى مبتكر، لم يقل أحد مثله، وهو من الحكمة.
إنَّ الحكمة في شعر المتنبي، هي تقديم الحياة، بصورتها الحقيقية، ببيان يوضح محدداتها، وفصاحة امتاز بها شعر أبي الطيب، وبفنون البديع التي تُلوّن بجمال حدود التعريفات والأوصاف، التي ساقها المتنبي، لشرح معانيه.
أي واقعية مثل واقعية حكمته، التي أوردها في بيان قبح الحقيقة، وجمال التمثل:
فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
أيُّ شاعرٍ يستطيع أن يقول، بنبرة من وزن معاني الحياة، إذ يمزج الحكمة باقتباس أمثال العرب:
وَليُّكَ االله لِمْ صيَّرتَني مَثَلاً كالمُستَجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ
يضيق مقام المقال، عن إيراد المزيد من الحكمة الواقعية، في شعر أبي الطيب، وفي الحديث شجون وشؤون، وله صلة بموصول. أختم ببيت، يجسد فيه المتنبي أقصى واقعية حكمة الحياة، التي يوردها في سياق قواعد كلية، فيقول:
وَمَا انْتِفَـاعُ أخـي الدّنْيَـا بِنَاظِـرِهِ إذا اسْتَوَتْ عِنْـدَهُ الأنْـوارُ وَالظُّلَـمُ