أدت قسوة السلطة الى انحسار وظيفة المثقف ووصمها بأنها غير شرعية وخارجة عن السياق
لوحة للرسام العراقي فلاح السعيدي (صفحة الرسام – فيسبوك)
لم يبالغ علي الراعي حين وصف الرواية بأنها “ديوان العرب المعاصرين”، فمن خلالها نستطيع معاينة إحباطات الأمة العربية ومحاولات نهوضها. وبعبارة أخرى نستطيع مقاربة انكساراتها وانتصاراتها. وفي هذا السياق يأتي كتاب “سرديات الانتهاك في الرواية العراقية” (بيت الحكمة) لعلي حسن الفواز ضمن سلسلة “أفق” التي تتبنى مشروع نشر أعمال فكرية ونقدية لكتاب عرب “من ذوي القدرات العلمية التي لم تتكلس تحت وطأة الكبح المنهجي”، بحسب بيان تدشين هذه السلسلة.
في ضوء هذه الاعتبارات جاءت الدراسة المهمة عن الرواية العراقية المغيّبة – للأسف – عن المشهد الروائي العربي، وتبدأ بمقدمة تضع الخطوط العامة والتعريفات المبدئية لما سوف تتكئ عليه من مفاهيم. فتعرض لمصطلح “السلطة” وتمثلاتها عبر خطاب الهيمنة، ثم ما أطلق عليه “حروب الأنماط”، وذلك من خلال “فاعلية الدرس الثقافي لمعاينة السرد”. هذا السرد الذي يسعى إلى تقويض مركزية “السلطة” وسردياتها الكبرى التي تحاول إشاعتها – ومن ثم تسويغها – عبر أجهزة الإعلام والتعليم ومنصات السوشيال ميديا. ولا تمتلك هذه السرديات مصداقيتها المخادعة إلا بمحاولة تقنعها بالأيديولوجيا، ما ينتج عنه إباحة الخوف والإيمان بالطاعة؛ “إذ يكون الإنسان المطيع هو المريد والتابع وليس المواطن بالمفهوم الحديث”. ولا شك أن تغول السلطة على هذا النحو تؤدي إلى انحسار وظيفة المثقف ووصمها بأنها “غير شرعية وخارجة عن السياق”. ثم تنقسم الدراسة – بعد هذه المقدمة – إلى فصلين كبيرين، تمحور الأول حول مقاربة “سرديات الانتهاك بوصفها مجالاً ثقافياً”. وتمحور الفصل الثاني حول “الانتهاك”، عبر “التمثيل السردي وإجراءات الكتابة”، بما يعني أن الفصل الأول عبارة عن مداخل نظرية لموضوع المقاربة النقدية، بينما الثاني قراءة تطبيقية للروايات موضع البحث.
الدراسة النقدية (دار الحكمة)
بدأت سرديات الانتهاك في التتابع بسبب تلك الهيمنة التي فرضتها السلطة، وذلك على النقيض من الأحلام الثورية المناهضة لمركزيتها. ومن ثم تبدت ظاهرة “السجن” السياسي بوصفه سجناً قمعياً أيديولوجياً، وقد عرف العراق العديد من هذه السجون التي تحولت إلى مجال لإنتاج سرديات وظّفتها الرواية العراقية كما في روايات فاضل العزاوي ولطيفة الدليمي وعبد الرحمن مجيد الربيعي وعالية ممدوح وغيرهم. وقد تعددت وسائل الروائيين في مواجهة هذه السلطة من خلال ممارسة السارد “وظيفته في التواصل والإنعاش والنقد والتجريح”، وهكذا زحزحت الرواية التدوين الرسمي عن مركزيته، ودخلت إلى حقول التهكم من التاريخ ونقد وثائقه ومواجهة تلفيقاته.
الرواية والمدينة
من المعروف أن الرواية فن مديني في الأساس، وأنها بنت صعود الطبقة الوسطى في العصر الحديث، ومن الطبيعي أن تنهل الرواية العراقية من هذا الفضاء وتعكس صراعاته الاجتماعية عبر كتابة قص تاريخي ضدي يتحدث عن الانتهاك الشخصي بوصفه انتهاكاً عمومياً. وهكذا يمكن القول إن “هوية المدينة في السرد، هي هويتها النزاعية التي تبدت عبر ذلك الصراع، من خلال الزمن السياسي بوصفه زمناً صراعياً، ومن خلال الزمن النفسي بوصفه زمناً تنازعياً بين المركز والهامش، حيث تعيش الشخصيات تحولات المدينة ذاتها”. وهذا ما نجده في رواية “كراسة كانون” للروائي محمد خضير الذي يضعنا أمام سردية تترصد انتهاك المدينة المقصوفة عام 1991 من خلال تقنية استرجاع يوميات الحرب وتركيب ما يعرف بـ “السرد البصري”؛ حيث تتزاوج الخطوط والألوان واللوحات والغرافيك والمنحوتة الجدارية. إن أيام القصف الأميركي للعراق تقدم بوصفها يوميات فقدت فيها المدينة أنسنتها كنظير لما فقده إنسانها المرعوب والمستلب والمكشوف على قسوة الحرب والمحاربين، وإلى تبادل الكتابة الحرة وظيفتها مع اللوحة التشكيلية والغرافيك. وفي التوازي مع المكان، نجد حضور التمثيل التاريخي فارقاً ومتناقضاً في عدد من السرديات لاسيما ما كتبه جعفر الخليلي في رواية “في قرى الجن”، وغائب طعمة فرمان في “القربان”، وموسى الهاشمي في “الجدار المتصدع”، حيث عكست هذه الروايات علاقة ما هو مسكوت عنه بالتاريخ الرسمي، حتى بدت وكأنها تدوين قصدي للمختلف والمعارض والمغاير.
الناقد علي حسن الفواز (دار الحكمة)
استدعت سردية الانتهاك ما سماه الكاتب بـ “الحكايات الكابوسية” التي استعارت بعض مرجعياتها من الأسطورة والميثولوجيا وحكايات الأشباح والجنيات والأدب الكابوسي والعبثي في الغرب في كتابات كافكا وآلان بو وألبير كامو ويونسكو وبيكيت. وقد لجأ الروائيون إلى ذلك بهدف تحويل سردياتهم إلى شواهد على أزمة الإنسان العراقي. فما كتبه فاضل العزاوي عن “مخلوقاته”، وجمعة اللامي في “مجنون زينب”، وحميد المختار في “تابو”، و”صحراء نيسابور”، يستعيد ليالي الرعب والخوف، ويكشف عن حجم الرعب الذي يختبئ في خفايا الممارسة الخطابية، ما جعل السارد أكثر وعياً وقدرة على تجاوز ما هو تقليدي واستكناه فاعلية الجدة بوصفها استشرافاً للمستقبل. ومن ثم شاع نموذج البطل الإشكالي الذي يعيش هواجس اغترابه ورفضه لواقعه الرث وعجزه عن تغييره ومن هنا – تحديداً- تجسدت إشكاليته.
اقرأ المزيد
- سعيد الغانمي يقترح قراءة جديدة للتراث وسردياته
- العراقي محمد خضير راوي سرديات العقود في ما يشبه السيرة
إن ما سبق يعني أن الرواية العراقية كانت هي الأكثر انشغالاً وعناية بهذا “التدوين المضاد” عبر لعبة السرد الماكر حيث حفلت منذ الستينيات بهاجس التمرد على الواقع على مستوى التجريب والتنويع السردي. والشخصية المنتهكة هي الشخصية الأكثر تمثيلاً لهذا التمرد الداخلي والصراع مع السلطة؛ حتى بدا الصوت الداخلي وكأنه التعويض الدال على هوية هذا الصوت المكسور. ولعل هذا هو ما دفع الكتاب إلى التماهي مع كتابات بورخيس وماركيز واستورياس، وكان أبرز هذه المتغيرات في الكتابة هو التحرر من الزمن الواقعي والغوص في قضايا الاغتراب والقلق عبر ثنائيات متصارعة بين الذكورة والأنوثة والحاكم والمحكوم والتاريخ والسرد.
انتهاك المرأة
لا يعني حديثنا عن انتهاك المرأة الاقتصار على الجنوسة أو العنف الموجّه إلى المرأة فحسب. فالملاحظ أن هذا العنف يطال الرجل والطفل والهوية، لكن صورته القاسية تظهر بشكل أكثر وضوحاً على الفئات الرخوة التي تأتي المرأة في مقدمتها، فهي ضحية التاريخ والتابو والذكورة والسلطة. وبهذا فإن هذا الانتهاك يدخل بوصفه جزءاً من الصراع العام، إضافة إلى أنه يسحبنا إلى مرويات التاريخ والمقدس والميثولوجيا والتعرف على المخفي في السرديات النسوية. وقد تجسد هذا في رواية “الكافرة” لعلى بدر، وهو عنوان مفتوح لمقاربة فكرة الانتهاك ولإدانة مفهوم الشرق الذكوري وفكرة التشدد والعنف التي يمارسها الأب والزوج ومفتي الجماعة ضد المرأة. والعنوان يوحي بمجموعة من الإيحاءات؛ أهمها أنه يميل – بطريقة ساخرة مضللة – إلى إنتاج صورة ذهنية عن خطيئة المرأة وخروجها عن نسق الجماعة والتمرد على طاعتهم وعلى استلاب الجسد الشرقي والشرعي. لكنه – أي العنوان – يستبطن في جوهره فكرة التمرد الوجودي بوصفه موقفاً من العالم.
فشخصية “جميلة” تدان بجريمة الزنا؛ رغم أنها ضحية اغتصاب ابن الجيران لها، فتتعرض للقتل رجماً: “قتلها أبوها بلا رحمة وبلا شفقة، هكذا ضربها بصخرة على رأسها فماتت، قتلها لأن ابن الجيران اغتصبها، فعل فعلته وهرب وعادت إلى منزلها مرتاعة دون أن تفهم ما حدث لها”. ومع ذلك يظل من الصعب فصل رواية علي بدر عن التاريخ، فبقدر ما أراد الروائي أن يضعنا في سياق أنثروبولوجي فإنه ذهب أيضاً إلى الكشف عن محنة الواقع الشرقي – العراقي بكل ما يكتنفه من تداخلات وصراعات يتداخل فيها الرغبوي مع الأيديولوجي والشرعي لاسيما بعد احتلال الجماعات التكفيرية للمكان. وفي هذا السياق تأتي رواية “سيدات زحل” للطفية الدليمي التي تحفل بحضور استثنائي للشخصيات المنتهكة فـ “حياة البابلي” تحمل مع اسمها ثنائية الوجود (حياة) والأسطرة (البابلي) لكنها تحضر في الرواية بوصفها شخصية قلقة إذ تعيش انشطار الهوية مع رفيقتها “آسيا كنعان”، فتلتقي الهويتان عند رمزية ما يتعرضان له من الانتهاك السياسي والجنسي والوجودي.