الثلاثاء – 20 شهر ربيع الأول 1443 هـ – 26 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15673]
داود الفرحان كاتب عراقي
بعد أكثر من أسبوعين على الانتخابات النيابية العراقية الأخيرة، أسدل مجلس الأمن الدولي الستار يوم السبت الماضي على أي اعتراضات أو تفسيرات أو اتهامات حول نتائج الانتخابات. وقال إنها سارت على نحو سلس متميز عن أي انتخابات سابقة. وندد المجلس بالتهديدات الأخيرة باللجوء إلى العنف ضد «بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق» وموظفي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.
إلا أن الأهم من الانتخابات التي تم حسمها هو التزام مجلس الأمن، من دون أي فيتو، حماية استقلال العراق وسيادته ووحدته وسلامة أراضيه. ودعا الحكومة العراقية إلى تلبية المطالب المشروعة للشعب العراقي للتصدي للفساد، وتوفير الخدمات الأساسية والضرورية وتنويع الاقتصاد وتوفير فرص العمل وتحسين الحكم وتعزيز مؤسسات الدولة.
إلا أن الميليشيات الإيرانية في العراق لم تفق بعد من هول الصدمة التي توقعتها معظم الأحزاب والحركات والشخصيات السياسية العراقية باستثناء قادة تلك الميليشيات الإرهابية. واكتشف حاملو الأسلحة المنفلتة فجأة أن زمن قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الإيراني قد ولى في العراق حين اغتيل مع رفيقه القائد الميليشياوي العراقي أبو مهدي المهندس قبل نحو عامين على أسوار مطار بغداد الدولي، وأن المرحلة المخجلة التي كان فيها سليماني يقول للسياسيين العراقيين سواء من المنافقين أو الموالين لإيران: «كونوا…» فيكونون، قد طويت بلا رجعة وإلى الأبد.
لقد فعلت ثورة الجياع والمحرومين والمضطهدين والمهمشين ورافضي الاحتلال الإيراني الأسود فعلها في بلد العباسيين والبابليين والسومريين والأكديين والآشوريين والحكمين الوطنيين الملكي والجمهوري، وانتهاء بالاحتلالين الأميركي والإيراني. آن الأوان للإجهاز على هذه الفترة العصيبة التي عادت بالعراق المعاصر قروناً للوراء إلى محنة الاحتلال المغولي الدامي.
كما جرت العادة فإن معظم الخاسرين الغاضبين في أي انتخابات سياسية يلجأون إلى الطعن على نتائج صناديق الانتخابات ونزاهة القائمين عليها وتوجيه الاتهامات الفارغة إلى أميركا وإسرائيل و«داعش» aوالتزوير، ويحشرون معهم حزب البعث لأهداف معلومة.
يعرف العراقيون جيداً أن كل الانتخابات الأربعة السابقة بعد الاحتلال الأميركي والسيطرة الإيرانية كانت مزورة، وازدهرت فيها عمليات البيع والشراء في سوق المرشحين والناخبين، لكن الميليشيات والأحزاب الموالية لإيران التي زورت الانتخابات السابقة علناً لم تصغ إلى اعتراضات المرشحين أصحاب الشكاوى. بينما شاهدنا بعد احتجاجات الميليشيات الأخيرة كيف افترشت اللجان الانتخابية الأرض وهي تعيد الفرز والعد ورقة بعد أخرى.
وإذا كان الميليشياويون يرفضون «أولوية» قائمة مقتدى الصدر، ويتهمونه في قنواتهم التلفزيونية بتزوير الانتخابات، فهو كان واحداً منهم طوال الانتخابات الأربعة الماضية، وله ميليشياته المسلحة وعلاقاته مع إيران ذهاباً وإياباً، لكنه لم يتوقف عن التباهي بعراقيته، وهم يتباهون بولائهم لإيران، وفي الوقت نفسه لم يوجه ميليشياته بالتوقف عن اغتيال الناشطين الشباب الذين قدموا للوطن أكثر من 800 شهيد في بغداد والناصرية والبصرة والعمارة والسماوة وبابل، وكلها باستثناء بغداد، محافظات شيعية، وهم يطالبون بإجراء انتخابات نيابية مبكرة وهي التي جرت مؤخراً. وأول المستفيدين من الانتخابات المبكرة هو التيار الصدري نفسه.
العراقيون عموماً كانوا غير متحمسين للانتخابات لأن الثقة مفقودة بالنظام السياسي منذ 2003 حتى اليوم. فكل المجالس النيابية والوزارات المتتالية لم تُحرك أي بيدق في رقعة الشطرنج، ولم تقدم أي إنجازات خدمية أو مراجعات تصحيحية لمخاض استمر 18 عاماً مُقْفرة ومُفْقرة بلا أي أمل أو نتيجة. وبدلاً من أن تعيد الحكومات النظر في مناهجها التقليدية الوهمية، استمرت في سياساتها العقيمة ومداورة شخصياتها الفاشلة والفاسدة. وغضت البصر عن جرائم الميليشيات الشيعية، وخاصة في المحافظات السنية، إلى درجة أن أحد قادة تشكيلاتها الحشدية هدد بالنزول إلى شوارع العاصمة واستخدام الأسلحة لتغيير نتائج الانتخابات. أصبح استخدام السلاح علناً «وجهة نظر» لدى الميليشيات المدعومة من النظام الإيراني. صارت إعادة الانتخابات تستحق التظاهر من أجلها على أبواب المنطقة الخضراء ومطلباً ميليشياوياً يجب تنفيذه، وإلا فإن السلاح هو الحل. وكما قالت صحيفة «نيويورك تايمز»: «المال والسلاح هما المهم… نفس الوجوه ونفس الأحزاب. فالأحزاب بلا برامج والناخبون محبطون».
لخص مراسل صحيفة «الغارديان» البريطانية في الشرق الأوسط مارتن شولوف انطباعه عن الانتخابات العراقية بأنها «منخفضة إلى نحو 25 في المائة مع بقاء الشباب والطبقات الوسطى المحبطين في البلاد في منازلهم إلى حد كبير، حيث قاطع كثيرون اقتراعاً قد يعزز نظاماً سياسياً خذلهم». ولمس المراسل «أن عدم الثقة بالنظام السياسي القائم منذ الغزو الأميركي في 2003 دفع السياسيين العراقيين إلى التنافس الشرس على النفوذ في البرلمان المكون من 329 مقعداً لاختيار رئيس وزراء شيعي لديه كل الصلاحيات ورئيس جمهورية كردي تشريفي ورئيس سني ضعيف لمجلس النواب»، وفات المراسل أن المناصب الثلاثة العليا في الدولة خاضعة للنفوذ الإيراني العلني، وفي الدورة البرلمانية السابقة في عام 2018 عُقدت اجتماعات التوافق لاختيار الرؤساء الثلاثة في مقر السفير الإيراني في بغداد، وعرض التلفزيون العراقي فيلماً عنها أثار استياء الشعب العراقي وسخريته. ولم يكن رئيس الوزراء الحالي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي مرشحاً يحظى بقبول طهران لأنه كان رئيساً للاستخبارات العراقية، وكانت لطهران شكوك لم تخفها بأن لديه يداً في عملية الاغتيال الأميركية لقاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، لكن لم يثبت ذلك.
التنافس اليوم على تولي رئاسة الوزراء يجري في حلبة مصارعة حرة يُسمح فيها بالضرب فوق وتحت الحزام بين التكتلات الشيعية السياسية والدينية. والمصارعان البارزان فيها التيار الصدري وحزب دولة القانون. الأول برئاسة مقتدى الصدر الذي يمتلك 73 مقعداً يريد اختيار مرشحه وهو من عائلته. والثاني نوري المالكي الطامع بولاية ثالثة بعد فضيحته الكبرى في السماح لـ«تنظيم داعش» الإرهابي باجتياح محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وكركوك وديالى والاقتراب من أسوار بغداد.
وسمع المراسل أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي قد يرشح نفسه لولاية ثانية. وسواء رشح نفسه أم لم يرشح، فإن الكاظمي أمامه مهلة للتفكير قد تستمر أشهراً يظل فيها رئيساً للوزراء لتصريف الأمور التنفيذية إلى أن تَحسم الغرف المغلقة نتيجة الصراع لصالح أحد المرشحين أو تسمية الكاظمي، بقضه وقضيضه، رئيساً يعيد تذكير العراقيين بأن جلجامش «كان ملكاً على العراق في بداية الفتوحات الإسلامية». وإلا فإن السفير الإيراني سيخرج من درج مكتبه ملف مرشح الاختيار الوحيد، أو مرشح الطوارئ، خاصة أن العراقيين أدمنوا حالات الطوارئ منذ 2003 حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وفي كل الأحوال فإن 220 وجهاً جديداً فازوا في الانتخابات، وهي معادلة تبدو عقاباً للأحزاب التقليدية التي غرقت في بحر من الفساد والعمالة لإيران.
المعركة طويلة وليست سهلة لكنها لن تخرج عن السيناريو الإيراني الذي تعاونت معه الولايات المتحدة منذ أول أيام الغزو إلى أن انقلب السحر على الساحر. أما الولايات المتحدة المسؤولة عن كارثة العراق المزمنة فقد «نأت بنفسها» عن الانتخابات، وهي على وشك الهروب الكبير كما فعلت في أفغانستان وقبلها في فيتنام.
أمام بغداد شتاء ساخن إذا تولى المالكي ولاية فساد ثالثة، والعراقيون يترقبون جدية قرار مجلس الأمن الأول من نوعه منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.