بقلم : ناصر قنديل
– لم يكن في الحساب الغربي والتركي والسعودي عندما أطلقت موسكو الدعوات الأولى لملتقى سوتشي للحوار الوطني السوري أن المشروع سيتحوّل العنوان الأهم للمسار السياسي الخاص بسورية، كما لم يكن من قبل ثمّة مَن توقّع أن يكون في أستانة إطار يوازي جنيف في الأهمية وتشارك فيه الفصائل السورية المسلّحة التي تشغلها تركيا والسعودية والدول الغربية، تحت رعاية روسيا بالتشارك مع إيران. وعلى ضفّة أصدقاء ومؤيدي سورية كان النظر غالباً يتسم بالريبة تجاه كل مفردات الحل السياسي التي تطلقها موسكو تحت تأثير الدعاية الغربية والعربية التي قدّمت روسيا دائماً تحت صورة الجهة الجاهزة للبيع والشراء متى تلقت عروض التفاوض تبيع حلفاءها .
– قدّمت التجربة الروسية خلال سنوات الحرب على سورية ما يكفي للقول: أولاً بأن قيادة الرئيس فلاديمير بوتين ممسكة بمؤسساتها العسكرية والسياسية، ولا صحة لكل ما أشيع عن تيارات متهاونة وتيارات متشدّدة، ولعب على الحبال، بقدر ما ثبت أن الكل منضبط بأدوار منوطة به من مصدر قرار واحد هو الرئيس بوتين. كما ثبت أن هذا القرار مخلص وصادق لفهم التحالف مع الدولة السورية والجيش السوري، ولا يبيع ولا يشتري، وقد تعرّض للإغراءات ورفضها وتعرّض للتهديدات وواجهها، وهو يدرك مصلحته العليا بنصر سورية، سواء لمكانته كدولة عظمى أو لمصالحه الأمنية والاستراتيجية، ولكن أيضاً لقيمة ترسيخ مفهوم الوفاء والصدق والإخلاص في التحالفات والأخلاق في السياسة.
– قدّمت التجربة الروسية السياسية في إدارة ملف الحرب والتفاوض حول سورية ما يقول إننا أمام قيادة ماهرة ومحترفة وتعرف كيف تنجز الانتصارات العسكرية وتوظف اللعبة السياسية لتحقيق هذه الانتصارات وتحييد قوى وعزل قوى، وكسب قوى، لكنها تعرف أيضاً كيف توظف الانتصارات العسكرية سياسياً بمبادرات وفك وتركيب تحالفات، وترسم استراتيجية واضحة تعرف كيف تصبّ مصادر القوة في صناعة جناحيها السياسي والعسكري بتكامل نادر مبهر في آن.
– ما يجري على جبهة العلاقة الروسية التركية في ظل الحرب التركية في عفرين من جهة، والعلاقة الروسية بحرب الأكراد خلال معارك دير الزور والبوكمال والدعم الأميركي لهم من جهة مقابلة، وبحرب سورية وحلفائها في إدلب من جهة ثالثة، ومن ثم ما يجري في السياسة على جبهتي فيينا وسوتشي وكيفية توزيع النار ومقادير المواد اللازمة لإنضاج الطبخة التي يشتغل عليها الطبّاخ الروسي، يستدعي رفع القبعة للطباخ الروسي مع التشظي الذي بدأ يصيب هياكل المعارضة والارتباك الذي يعصف بخياراتها وصفوفها، وتحوّل سوتشي لمسار حاكم للحل السياسي في سورية، لتصير الإدارة الروسية للحرب والتفاوض في سورية مدرسة بحدّ ذاتها لفنون الجمع العسكري والسياسي في لعبة الدول العظمى، كما هي علامة على معنى الصدق في التحالفات والحسم الواضح في الخيارات إلى جانب الحلفاء، مع هوامش لا حدود لها للقدرة على المناورة، تحميها ثقة لا حدود لها بين الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد، ثقة مبنية على تفاهمات يعترف أقرب المقرّبين منهما أنهم لم يكونوا في صورة تفاصيل التفاهمات التي يقيمانها في أغلب الأحيان، منذ الاتفاق على الحل السياسي للسلاح الكيميائي السوري، وصولاً لسوتشي، وما بينهما من محطات ومفاجآت وألغاز سياسية وعسكرية، تحققت خلالها إنجازات وانتصارات مبهرة ومذهلة تأسست على هذا التفاهم وهذه الثقة.