سوريا الجديدة… الفرص والمخاطر

2

أحمد محمود عجاج

كلُّ الثورات تخلق واقعاً صعباً، بعضها قد يغيّر العالم، كالثورة الفرنسية، والبلشفية، ثم الإيرانية، وبعضها، مثل الثورة السورية، قد يعيد التوازن لواقع مختل؛ وككل الثورات فيها خاسرون ورابحون، والخاسرون في سوريا هما إيران وروسيا، والرابحون هم الراغبون في الاستقرار، وأولهم الشعب السوري، ثم المحيطان، العربي والدولي. لكن الرابح قد يصبح خاسراً، والخاسر يتحول رابحاً، وهذا درس التاريخ؛ فإيران ترى أن الفوضى ستعم البلاد، وروسيا تعمل على استمرار وجودها العسكري، وأميركا تدرس كل الخيارات، والأوروبيون، كعادتهم يلبسون، كما قال روسو، أقنعة عدة، لإخفاء الوجه الحقيقي؛ أما العرب فبعضهم حسم خياره، والبعض الآخر يتردد، بينما إسرائيل وتركيا تتأرجحان بين التعاون والمواجهة.

ثمة قناعة مشتركة عند الرابحين أن الاستقرار يخدم الجميع، وأن بناء مؤسسات الدولة السورية ركيزة للسلام والأمن؛ هذه القناعة ليست وجدانيةً إنما براغماتية، لأن موقع سوريا الجيوسياسي، في حال انزلاقها للعنف، سيجعلها بؤرة تهديد كبيرة، بالذات للأمن الأوروبي، وسيحرف أنظار أميركا عن اهتمامات أكبر في شرق آسيا للحد من النفوذ الصيني، ويعوق تسوية الملف الأوكراني – الروسي، وسيدفع إسرائيل وتركيا للمواجهة لأنهما سيدعمان أطرافاً متضادة؛ أما العرب فسيتهدد أمنهم أكثر، وستعود إيران. العرب، كما يبدو، حسموا موقفهم، وإن كان بعضهم متردداً، بدعم الحكومة السورية الجديدة لسببين: حماية الأمن القومي العربي، ولأنهم تعلموا، من تجربة العراق، أن عدم الانخراط يجعلهم لاعبين هامشيين، أو خارج اللعبة تماماً؛ لذلك رأينا اندفاعة عربية واضحة، ولقاءات مصارحة بين قادة سوريا ودول عربية لاستكشاف تصورات القادمين لمستقبل سوريا، وموقفهم من الأمن العربي، ومفهومهم للثورة؛ وطمأن قادة سوريا العرب، بالتحديد السعودية، كأكبر دولة عربية فاعلة، أن ثورتهم انتهت بوصولهم للسلطة، وهدفهم قيام دولة سورية وطنية، تعيش بسلام مع جوارها، وتنشغل بهمومها الكثيرة. ويبدو أن تحركات العرب تستوعب مقولة الرئيس الأميركي جون كيندي أن «الذين يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يساهمون بتحولها للعنف»؛ لهذا أمسك العرب للمرة الأولى بطرف الخيط، ويجهدون لنقل سوريا من منطق الثورة إلى منطق الدولة الجامعة.

أما الأوروبيون فيريدون الاستقرار، إنما، إذا تيسر، بشروط تجعله هشاً؛ لذلك يصرون على حماية الأقليات، والمرأة، والمجتمع المدني، وهذا يذكرنا بجوهر الانتداب (الاستعماري) بأن شعوب المنطقة لم تبلغ درجة التطور، وتحتاج لوصاية دول حضارية قبل انضمامها للأسرة الدولية. هذا الانتداب الحضاري كان أول من بشر به زعيم عصر الأنوار فولتير بوصف إمبراطورة روسيا كاترين الثانية بـ«حاملة مشعل التنوير» لحمايتها الأقليات رغم معرفته أنها تريدهم حصان طروادة. ويحاول الأوروبيون اليوم أن يرفعوا هذا الشعار مجدداً، لكنهم يدركون تعقيدات الواقع، وأولويتَي الاستقرار في سوريا وإخراج الروس منها. هاتان الأولويتان تتقدمان على كل شيء لأن غيابهما يؤدي لتفتت الدولة السورية، ووصول قوارب لاجئين إلى شواطئهم، والإرهاب في مدنهم، ووصول اليمين المتطرف إلى السلطة في بلادهم، وبقاء روسيا مقابل شواطئهم في جنوب المتوسط؛ هذا سيدفعهم قسراً لمساعدة سوريا، وإن تجاهلت الحكومة السورية مطالبهم التنويرية الفولتيرية.

كذلك يولي الأميركيون الاستقرار أولوية كبرى، بالذات مع وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب للسلطة، والدليل قوله: «ليست لأميركا مصلحة في سوريا وما يجري فيها ليس معركتنا»؛ وهو محق تماماً لأن الشروط الأميركية في سوريا تحققت كلها: خرجت إيران، وخسرت روسيا موقعها، وتخلت «هيئة تحرير الشام» عن الطموحات «الجهادية»، وتبنت الدولة الوطنية، ولم تعادِ إسرائيل، وتتحالف مع تركيا العضو في «الناتو»، وتتصالح مع الجوار العربي. لم يبقَ بالنسبة لأميركا إلا مسألتا الأكراد و«داعش»، وحلهما، كما تفكر إدارتها، يتطابق مع الواقع والمصلحة الأميركية: انضمام الأكراد إلى الحكومة المركزية مع بعض الحوافز التي يمكن مناقشتها، وإحالة ملف «داعش» إلى السلطة السورية التي أثبتت خلال وجودها في إدلب أنها الأقدر على هذه المواجهة. بهذا تكون أميركا قد ضمنت الاستقرار، وأرضت حليفها التركي ومنعت التصادم بين إسرائيل وتركيا، وأعادت نفوذها بقوة إلى منطقة حيوية واستراتيجية، ومكّنت الدولة السورية من الوقوف على قدميها بإعادة المناطق الغنية زراعياً ونفطياً من الأكراد إلى سلطتها؛ هذا كله يعطي المصداقية لقول ترمب إن «حل مشكلة الشرق الأوسط أهون من حل النزاع الروسي – الأوكراني».

إن انتصار الثورة السورية المفاجئ يحمل في طياته، كأي انتصار، فرصاً ومخاطر؛ الفرص بأن تعمل الأطراف على دعم الحكومة الجديدة لينعم السوريون بالأمن، والحرية، والتنمية الاقتصادية، والعودة الوازنة والإيجابية للمجتمع الدولي العربي؛ والمخاطر أن تجنح الأطراف إلى التنافس، والاعتقاد أنها قادرة على تحقيق كل مطالبها، ودونما أي حسبان لمصالح الآخرين، ومصالح الشعب السوري، وبذلك يعود التنافس والخلاف ومعهما سوريا للعنف، والإرهاب، ويتحول الرابحون إلى خاسرين.

التعليقات معطلة.