المصدر: النهار العربي سركيس قصارجيان
الرئيس السوري وزوجته في افتتاح الالعاب الآسيوية في الصين(أ ف ب)
A+A-ينهى الرئيس السوري بشار الأسد زيارته للصين بتوقيع ثلاث اتّفاقيات أساسية، مع تأكيد الجانبين رفع العلاقات بين البلدين إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، في ظل تزايد نقاط الالتقاء في المصالح بينهما. تسعى دمشق إلى التقاط فرصة عزم الصين على زيادة نفوذها السياسي وتأثيرها الدبلوماسي في الشرق الأوسط، بعد عقود من الاكتفاء بانتهاج سياسات اقتصادية، في وقت يتعرّض فيه كلا البلدين لضغوط من الأطراف والجهات ذاتها، ما يحفّز توحيد الجهود لمواجهتها.
توسيع نفوذها في الشرق الأوسطقام الرئيس الأسد بأول رحلة له خارج الشرق الأوسط وروسيا، منذ انفجار الأزمة السورية في عام 2011، وكانت وجهته العملاق الآسيوي، في رسالة تحدّ للعزلة السياسية التي يحاول الغرب إبقاءها، وإقناع الدول المطبّعة مع دمشق أخيراً بالتراجع عن قراراتها. لطالما دعمت بكين دمشق، مساندة إياها دبلوماسياً في مجلس الأمن الدولي وهي العضو الدائم فيه، مستخدمة حق النقض ثماني مرات بحق قرارات ضد الحكومة السورية. لكن هذا الدعم بقي في الإطار السياسي، من دون أن يتوسّع ليشمل قطاعات أساسية كالعسكري أو الاقتصادي، فيما تعاني سوريا أكبر أزمة اقتصادية معيشية في تاريخ البلاد، وبوتيرة أسوأ من سنوات الحرب ذاتها، حينما كانت الحكومة تسيطر على ثلث الأراضي السورية فقط. تأخّر الصين عن الحلفاء الآخرين في كل من موسكو وطهران في مساعدة دمشق اقتصادياً يظهر جلياً في تأخر زيارة الرئيس السوري لبكين لمدة 19 عاماً بعد الزيارة الأولى في تاريخ البلدين عام 2004 في ظروف مشابهة، عندما كانت القوّات الأميركية قد أنهت سيطرتها على العراق وبدأت بتهديد دمشق. عرفت الصين بتركيزها على الاقتصاد إلى حد كبير، وانتهاجها سياسات تخدم مصالحها الاقتصادية، مع الحرص على عدم تحويل المنافسة التجارية بينها وبين الغرب إلى صراع سياسي قد يضرّ بطموحاتها الاقتصادية ومكاسبها التي حصلت عليها عبر تراكم عقود من الدبلوماسية الهادئة. لكن الرئيس شي جينبينغ يبدو في ولايته الثالثة أكثر إصراراً على تغيير السياسات الصينية التقليدية، وتحدّي الولايات المتّحدة خارج السور العظيم، عبر توسيع نفوذها في الشرق الأوسط. خلال ولايتيه السابقتين ركّز شي على توسيع شراكات بلاده التجارية في المنطقة مع تجنّب الغرق في التجاذبات السياسية، لكنّه فاجأ العالم في آذار (مارس) الماضي بالتوسط في اتفاق تاريخي بين السعودية وإيران أدى إلى استعادة الخصمين الإقليميين العلاقات الدبلوماسية، وأعقبته عودة سوريا إلى الحظيرة العربية في قمة جدّة السعودية في أيار (مايو)، معلنة انتهاء أكثر من عقد من العزلة العربية لدمشق.
الإيغور نقطة التقاء مهمةفي كلمته خلال لقائه نظيره السوري أعرب الرئيس شي عن دعم بلاده دمشق في معارضتها التدخل الأجنبي، والذي يشكّل أحد القواسم المشتركة بين الطرفين. فالصين كما سوريا تعاني أيضاً تدخّلات غربية وسيل من القرارات والتنديدات الدولية في ملف مسلمي الإيغور في تركستان الشرقية. الملف المذكور لا يشكّل قاسماً مشتركاً لجهة التدخّلات الخارجية فقط، بل يقع في قلب الاهتمام الصيني بالوضع الميداني السوري مع وجود نحو 5000 مقاتل من الإيغور تحت راية الحزب الإسلامي التركستاني على جبهات القتال في سوريا، وتحديداً في منطقة إدلب وريفها، وبقي هؤلاء على رادار بكين طوال سنوات الحرب السورية، لكن من دون اتّخاذها خطوات عملية أو مداخلات ميدانية ضدّهم. وقد أشار شي إلى هذه المسألة خلال كلمته من خلال إعرابه عن دعم بلاده “جهود سوريا في إعادة بناء وتحسين قدراتها في مكافحة الإرهاب”.
دمشق تتطلع إلى إسهام صيني اقتصاديفي المقابل، تأمل دمشق بالحصول على دعم بكين الاقتصادي، بخاصة في عملية إعادة الإعمار التي باتت تتطلّب عشرات المليارات من الدولارات، في ظل انسداد أفق الحصول عليها من الحلفاء التقليديين في كل من موسكو وطهران، وتخوّف الدول العربية من سيف العقوبات الغربية الأحادية. تأخرّت سوريا في الانضمام إلى مبادرة “الحزام والطريق” لمدة تسع سنوات منذ إعلانها عام 2013، إلا أنها اكتسبت أهمية أكبر بعد إعلان قمة مجموعة العشرين الأخيرة عن الممر الاقتصادي الهندي الذي يربط منافس الصين الآسيوي بأوروبا عبر الشرق الأوسط، بمباركة أوروبية أميركية. لم ينعكس دفء العلاقات الصينية-الروسية الرفيعة المستوى على القطاع الاقتصادي، وقد بقي القطاع الخاص الصيني حذراً في التعاطي التجاري مع دمشق خشية التعرّض لعقوبات قد تؤدي إلى خسارته أسواقاً عالمية كبيرة في أوروبا وحتى في أميركا مقابل السوق السورية الصغيرة، بخاصة في ظل تأثّرها بالتباطؤ الاقتصادي في السوق المحلّية الصينية، بالإضافة إلى الشراكات التي تجمع شركات صينية عملاقة عابرة للقارات مع نظيراتها الغربيات. أما على المستوى الحكومي، فقد أسهمت حالة اللا استقرار السائدة في البلاد لأكثر من عقد من الزمان، وتدنّي القوّة الشرائية للمواطن السوري، بالإضافة إلى الأفضلية الروسية والإيرانية، مع غيرها من الأسباب في تراجع شهية الحكومة الصينية في المضي قدماً في مشاريع استثمارية داخل سوريا. لكن هذا الوضع قد يتغيّر تحت تأثير الأمر الواقع الذي فرضه الإعلان عن المشروع الهندي الذي يمر عبر الجنوب السوري مباشرة، بخاصة أن مبادرة الحزام والطريق الصينية، تتطلب توفير التمويل اللازم لإنشاء البنية التحتية القادرة على منافسة مشروع الخصم. من الممكن أن تلعب سوريا دوراً مهماً في مبادرة الحزام والطريق، لتكون بمثابة “قناة لنقل البضائع”، وهو ما يمثّل أملاً كبيراً بالنسبة إلى دمشق للتعافي في مرحلة ما بعد الحرب، في ظل إحكام الولايات المتّحدة سيطرتها على حقول النفط والغاز في شرق البلاد. وتحظى سوريا بأهمية استراتيجية بالنسبة إلى الصين، كونها تقع بين العراق، المورد الرئيسي للنفط إلى الصين، وتركيا التي تنتهي عندها الممرات الاقتصادية الآسيوية إلى أوروبا، بالإضافة إلى أن ميناءي اللاذقية وطرطوس يشكّلان نقطة جذب لطموحات الصين في الحصول على موطئ قدم في البحر الأبيض المتوسط.
احتمالات وساطة صينية بين أنقرة ودمشقالرئيس الصيني عبّر أيضاً عن دعم بلاده مسار تحسين العلاقات بين دمشق والدول العربية الأخرى، وعزز هذا الدعم باستقبال حافل للرئيس السوري برفقة عائلته لحضور أحد أكبر الأحداث الرياضية على مستوى القارة الآسيوية. ويرى محللون سوريون وأجانب إمكان استخدم الصين قوّتها الاقتصادية لأداء دور وساطة بين سوريا وتركيا بدعم من إيران وروسيا لاستعادة دمشق سيطرتها على المناطق الشمالية بداية، قبل التوجّه شرقاً حيث حقول النفط التي خرجت منها الشركات الصينية في عام 2014، ولم تفلح مفاوضاتها مع الإدارة الذاتية في العودة إلى استثماراتها التي حظيت بها من خلال الاستحواذ على ملكية الشركة الكندية العاملة في المنطقة قبل عام 2007. خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس بكين في حزيران (يونيو) الماضي، عرضت الصين التوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وهو العرض الذي من المتوقع أن تكرره بكين على مسامع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال زيارته المتوقعة للصين قبل نهاية العام. لكن، رغم ذلك، فإن احتمالات تحقيق بكين نجاحاً في الملفين المذكورين على غرار ملف المصالحة السعودية-الإيرانية لا تزال أقل جظاً، نظراً إلى ضعف تأثيرها الدبلوماسي والاقتصادي على كل من تركيا وإسرائيل، وانعدام وجودها عسكرياً في المنطقة. في المقابل، يمكن للصين ومن خلال إعادة إنشاء البنية التحتية السورية، وبناء الموانئ والطرق البرّية والسكك الحديدية، تهيئة المزيد من الظروف الإيجابية للتواصل الإقليمي، والمساعدة في إعادة دمج سوريا في المنظومة الدولية. لا شكّ في أن زيارة الرئيس الأسد مثّلت فرصة لبكين لإظهار قوتها الدبلوماسية في ظل تصاعد حدة المنافسة الصينية مع الولايات المتحدة وشركائها الغربيين على النفوذ الجيوسياسي في الشرق الأوسط وغيره من المناطق. في المقابل، فإن الظهور مع الرئيس الصيني في تجمع إقليمي كبير يعزز من جهود دمشق لكسر العزلة الدولية والعودة إلى المسرح الإقليمي والعالمي، فيما تبقى الآمال الاقتصادية رهينة الظروف والمتغيّرات الميدانية والسياسية في سوريا والمنطقة.