سوق الجريد العريق في بنغازي يعود بحلّة متجدّدة تحفظ طابعه التّاريخي

1

مدخل السوق

قبل خمس سنوات قررت مجموعة من تجار سوق الجريد في مدينة بنغازي، عاصمة شرق ليبيا، إعادة ترميم السوق الذي يعد أحد معالم المدينة القديمة وإعادة افتتاحه أمام زواره، لكن المحاولة لم تكتمل لأسباب عدة تتعلق بالتمويل وهجرة سكان المنطقة التي دُمرت على يد الجماعات المتطرفة خلال فترة سيطرتها على بنغازي بين 2013 و2015، قبل أن يتدخل القطاع الهندسي التابع لـ”الجيش الوطني” الليبي ضمن مخطط إعادة إحياء المدينة التاريخية. ومع مطلع شهر رمضان أعيد افتتاح السوق الذي تعود تسميته إلى سعف النخيل المصنوع منها سقفه. مع دخولك من بوابته الرئيسية التي أُطلق عليها “بوابة المشير”، يستقبلك عازف القانون مرتدياً الزي الليبي التقليدي، فيما تصدح الموسيقى العربية في أرجاء المكان الذي يقسم إلى محال تجارية متجاورة على امتداد عشرات الأمتار، تتنوع في بضاعتها بين المشغولات الذهبية والفضية والتوابل والعطارة والملابس والأقمشة وغيرها، فيما تنتشر على الجدران ملصقات وصور تُظهر آثار تدمير السوق وجدرانه قبل عملية التأهيل. 

 وكانت الحكومة المكلفة من مجلس النواب قد أعلنت إعادة افتتاح السوق بعد صيانته الشاملة، في حفل حضره عميد بلدية بنغازي الصقر بوجواري، ورئيس “جهاز طارق بن زياد للخدمات والإنتاج” جبريل البدري، ووكيل وزارة الداخلية فرج أقعيم. وأوضح أقعيم أن السوق الذي يعد أحد المعالم العريقة في المدينة خضع للصيانة بدعم من القيادة العامة للجيش الوطني، بعدما تعرض للتخريب على أيدي الجماعات الإرهابية خلال السنوات الماضية. عملية إعادة تأهيل السوق استمرت لنحو سنة، وكان ثمة حرص على الحفاظ على الرونق التاريخي للجدران واستخدام الحجارة والمواد الطبيعية، مع دمجها بالأنظمة الحديثة للسلامة والتأمين، وفقاً للقائمين عليها. 

فوضى مبادرات فرديةوأوضح المشرف على عملية التأهيل المهندس محيي الدين مخلوف أنه حين تسلم السوق كانت معظم جدرانه مهدمة، فيما غلبت العشوائية على العمليات الأهلية لتأهيل بعض المتاجر في غياب الدولة، فالبعض استخدم المواد الخرسانية، وغاب التنسيق عن واجهات المتاجر وأبوابها، وكل صاحب متجر كان يؤهل متجره وفقاً لاحتياجاته، حتى أن بعضهم رفع مبناه درجاً أو اثنين، واستخدم البعض الخرسانة في الأسقف والبعض الآخر الأخشاب. وأضاف لـ”النهار العربي”: “كان ثمة إصرار على توحيد كل الأبواب وألوان الطلاء واستخدام الحجارة الطبيعية في الواجهات مع الحفاظ على منسوب واحد للأرضيات وارتفاع المتاجر”، لافتاً في الوقت نفسه إلى “استخدام أنظمة الإطفاء الحديثة ونشر كاميرات المراقبة لضمان تأمين المتاجر”. 

 ويعد سوق الجريد من أقدم المعالم في بنغازي، ويعود تدشينه إلى عام 1913 في العهد العثماني، ويتميز بعمارته الفريدة ونقوشه وزخارفه الإسلامية، وقد استُخدم في عملية ترميمه حجر برنيتشي المصنوع ليبياً، وفقاً لمخلوف، مع استخدام الأباليك الإسلامية في إضاءته. ويقول: “سوق الجريد يعد مزاراً سياحياً فريداً لكل محبي المناطق التراثية والمتعلقين بمعالم بنغازي القديمة”، معتبراً أن إعادة افتتاحه “تحمل رسالة بطي صفحة الماضي، وأخرى تحمل الأمل في مستقبل أفضل”.  

 ويتحدث الكاتب المؤرخ الليبي سالم الكبتي عن ملامح السوق مع ازدهاره في خمسينات القرن التاسع عشر، إذ “كان سقفه من اللوح الزيتي المزخرف، وأبواب حوانيته خشبية وبعض جوانبه مفتوحة على السماء مباشرة مثل المناور لكي تدخل الشمس والهواء. وفي أرجاء السوق كانت تتعالى أصوات الباعة والبراحين والغادين والرائحين، والصبية والحمالين ومفاصلات الزبائن وقياس الأقمشة بالذراع، وتفوح منه روائح العطرية ومواد البقالة والزيت الذي يباع بالمنطال، وحلويات الشاكار والقهوة بالكسبر والشاي بالنعناع”. 

 ويضيف الكبتي أن “ليالي السوق في رمضان كانت تشهد، لا سيما مع اقتراب العيد، جواً منعشاً وجميلاً، وكانت التجارة مبنية على الثقة والكلمة، وفي جزء من السوق، يقع هوتيل (استراحة) ومطعم الوحدة العربية الذي سمي كذلك تخليداً للوحدة (بين مصر وسوريا) في عهد جمال عبد الناصر قبل أن تنتكس”. ويشير إلى أن “للأسواق تاريخاً لا يشيخ، وحكايات طويلة، وتجليات مكان. جزء من حياة البشر، وهي حركة يومية دؤوبة منذ مطلع النهار وفرصة للتلاقي والتجارة والتبضع، ورفع موازين الاقتصاد أو خفضها ومعرفة الأحوال”.

التعليقات معطلة.