يوسف الديني
يُنسب إلى سعد الله ونوس (الأديب السوري الكبير) أن نظام الأسد حاول تضخيم سوريا بتقزيم السوريين، وبعد انتهاء هذه الحقبة المظلمة التي قزَّمت الاثنين معاً وجثمت على قلوب السوريين لنصف قرن، يجب أن يسعى السوريون لبقاء تنوعهم وبلدهم عظيماً يتمتع بالسيادة الكاملة، والتمثيل لكل مكونات مجتمعه الثري والمتنوع.
بالأمس، برز ملمح متجدد في علاقة المملكة العربية السعودية المتميزة بسوريا منذ نشأتها وعبر حقبها المختلفة؛ حيث نقطة التماس بين البلدين بدأت حتى قبل الدولة السعودية الأولى؛ لكنها توثقت بشكل مختلف يمكن أن نجد امتداده اليوم مع بدايات عهد الموحد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- إذ كان الاهتمام بسوريا جزءاً من استراتيجية التضامن العربي، وكانت تحتل مكانة مهمة بسبب الارتباط التاريخي والجوار الجغرافي والدين واللغة والارتباطات القبائلية والأسرية.
تجذَّرت العلاقة مبكراً في عهد الملك عبد العزيز في عام 1914، وهي الفترة التي شهدت الحرب العالمية الأولى؛ حيث كان المشروع الاستعماري يخطط لاحتلال الولايات العربية العثمانية وتجزئتها، وقد تمخض عنه معاهدة «سايكس بيكو» عام 1916، وكانت سوريا من نصيب الاستعمار الفرنسي. وبينما مضى الملك عبد العزيز في بناء دولته التي لم تُصبها نيران الاستعمار، كان قد تحول إلى أيقونة في مخيلة السوريين وعموم الشام والعرب قدوة وبطلاً. وحين تبلورت فكرة الثورة على فرنسا، وتم التواصل مع الملك عبد العزيز من أجل التشاور وطلب المساعدة منه، هنا ذهب رئيس الحركة الوطنية السورية الشيخ كامل القصاب (1873- 1954) لمد جسور التواصل مع الملك عبد العزيز، فأرسل محمد حمدي حمودة، والمهندس خالد الحكيم، وكان هذا اللقاء الأول بين الحركة الوطنية السورية والملك عبد العزيز.
كانت السعودية تحتل مكانة عظيمة في نفوس الثوار العرب المناضلين ضد الاستعمار؛ لأنها البلاد الوحيدة المستقلة التي لم تستعمرها القوى الأجنبية في المنطقة. وكان مما قاله الملك عبد العزيز: «يهمنا أمر إخواننا السوريين. تهمنا حالتهم، ويهمنا أمرهم؛ لأننا نرى أنهم منا ونحن منهم، فالاتفاق العربي روح طيبة وعمل طيب، وأقل مراتبه أن يجمع الكلمة… العرب جسد واحد، والجسد الواحد يعني الاتحاد، والعرب يحتاجون إلى التضامن؛ خصوصاً في هذا الوقت».
وعند اندلاع الثورة السورية عام 1925 ضد الاستعمار الفرنسي، لجأ بعض السوريين مجدداً إلى الملك عبد العزيز يطلبون العون والملاذ، بعد أن قامت القوات الفرنسية بطردهم من سوريا، فرحَّب بهم الملك عبد العزيز، وقال: «إنَّ نجداً ترحب بكل عربي أبي، وتعد أرضها وطناً لكل عربي سوري».
اجتمع حول الملك عبد العزيز شخصيات عربية هربت من جور المستعمر، وكان عدد كبير منهم من السوريين، منهم: يوسف محمد ياسين، وخالد حكيم، وخير الدين الزركلي.
وفي لحظة فارقة في تاريخ سوريا، يوم 17 أبريل (نيسان) 1946، تحقق الاستقلال بعد نضال كبير، وكان أن أرسل الملك عبد العزيز وفداً رسمياً كبيراً نيابة عنه لتمثيله في حفل الاستقلال، بقيادة ابنه الأمير فيصل رحمه الله.
وحين ظهرت المشاريع الوحدوية، ومنها مشروع سوريا الكبرى، والهلال الخصيب، كان الملك عبد العزيز واضحاً في موقفه، كما تعكسه الرسالة التي بعث بها إلى نوري السعيد: «أهل سوريا اختاروا الحكم الجمهوري لبلادهم، ونحن نرى أن هذا الأمر لهم، وهم أحق ببلادهم من أي شخص آخر… سياستنا التي نستهدفها في البلاد العربية هي أن تكون مستقلة، مع محافظة كل من البلدان العربية على مكانتها ومنزلتها، لا يعتدي بعضها على بعض، حفظاً لكيان كل بلد منها، وحفظاً للتوازن، ومنعاً للشحناء والبغضاء بينها».
وحين شجعت الولايات المتحدة تركيا على شن ضربة عسكرية ضد سوريا، نتيجة لرفضها «مبدأ آيزنهاور» وبدأت الحشود التركية على الحدود السورية؛ تدخلت السعودية معبِّرة عن استيائها، وأعلن الملك سعود -رحمه الله- وساطته لحل الأزمة السورية- التركية.
ومع احتلال الجولان كانت السعودية أول من دعا إلى عقد مؤتمر القمة العربية الرابع «مؤتمر الخرطوم» عام 1967، وقامت حينها بتسخير جزء من عوائدها النفطية لخدمة الأهداف العربية ضد الكيان الإسرائيلي؛ لكن اللافت في تلك القمة أن الملك فيصل -رحمه الله- أصر على تسمية العقد بـ«الالتزام» وليس «المساعدة».
وفي أكثر اللحظات قتامة في التاريخ السوري كانت السعودية مع السوريين، وأعطت الكثير من الفرص تجنباً للدماء والتقسيم والفوضى، وكانت من بين الدول التي بادرت منذ سقوط النظام إلى التموضع حول مصلحة السوريين، وضمان سيادتهم، وعدم التدخل في شؤونهم، ورفض محاولات تقزيمهم والإملاء عليهم عبر المشاريع العابرة للحدود، وما أكثرها.
سوريا كانت في كل حقباتها التاريخية مطمعاً لمشاريع شمولية تهدد وحدتها وسيادتها، ومع أفول المشروع الإيراني أطلت مشاريع أخرى برأسها لمحاولة استثمار ما حدث من انهيار النظام. بهذه الطريقة عادت السعودية مجدداً إلى السعي لإنقاذ سوريا، عبر حكمتها الأولى التي لا تتبدل؛ لأنها ليست صاحبة مشروع، ولا مصلحة لها سوى في بقاء سوريا عربية موحدة وذات سيادة، لكل السوريين، رغم كل المخاوف الكبيرة والمشروعة لدول المنطقة والعالم تجاه ما يحدث، وهي مخاوف مبنيَّة على مشاريع محدثة، في ظل أن نصف شعب سوريا بين نازح ولاجئ، وهناك أراضٍ محتلة ومجتزأة من دول مختلفة، وقواعد عسكرية، وأكثر من مائة فصيل وتنظيم مسلح على رأسها «داعش» و«القاعدة»، وفوق ذلك البلد في حالة متدهورة، يقدر أكثر المتفائلين أنه بحاجة إلى 70 مليار دولار لإعادة إعماره.
ما حدث في الرياض أول من أمس لم يكن مجرد اجتماع بروتوكولي، أو محاولة لحضور يستغل لحظة فارقة في تاريخ سوريا والمنطقة؛ بل محاولة جادة وصادقة لإنقاذ سوريا والسوريين مجدداً من دون مصلحة أو منَّة، وهو التزام بأمنها وأمن المنطقة واستقرارها ووحدتها. فهذا هو مشروع السعودية بالأمس واليوم وغداً.