“سياسة التوازن” في العراق على المحك في ظل إشكالات أمنية وسياسية

1

الهجمات المتبادلة وضعت حكومة السوداني “في موقف ضعيف” وأدت إلى دفع البلاد من جديد لتكون “أرض اشتباك مفتوحة”

أحمد السهيل صحافي 

عناصر من الحشد الشعبي خلال جنازة القيادي في حركة “النجباء” مشتاق طالب السعيدي (أ ف ب)

يبدو أن محاولات حكومة “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” في إدارة حالة من التوازن في ما يرتبط بالصراع بين واشنطن وطهران قد تصدعت، مع وصول التصعيد المتبادل بين الولايات المتحدة والميليشيات الموالية لإيران في العراق إلى حدود غير مسبوقة خلال الأيام القليلة الماضية.

وبدأت قوى “الإطار التنسيقي” عام 2024 بسلسلة من الإشكالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، التي باتت تشكل خطراً على إمكانية استمرار حكومة محمد شياع السوداني. 

ودفع الهجوم الأميركي الأخير الذي استهدف القيادي في حركة “النجباء”، مشتاق طالب السعيدي (أبو تقوى)، في الرابع من يناير (كانون الثاني) الجاري، الحكومة العراقية إلى تصريحات تبين حجم استنفار حلفاء إيران، إذ قالت إنها تعمل على إنهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في البلاد.

ويأتي القصف الأميركي الأخير على أثر اتهامات واشنطن للسعيدي بالمسؤولية عن هجمات استهدفت قوات التحالف في العراق.
 
تحرك لإنهاء وجود التحالف الدولي

وعلى بعد ساعات من حادثة استهداف السعيدي، أكد مكتب رئيس الوزراء العراقي، أن الحكومة العراقية بصدد تحديد موعد بدء الحوار لتحديد ترتيبات انتهاء الوجود العسكري للتحالف الدولي.

وجاءت تصريحات السوداني خلال حضوره حفل تأبين قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس “هيئة الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، اللذين قتلا في غارة أميركية مطلع يناير 2020.

وسارعت الجماعات المسلحة والسياسية الموالية لإيران إلى استنكار الحادثة والدعوة إلى إنهاء وجود التحالف الدولي في العراق، إذ دعا قادة الفصائل الرئيسة ضمن “الإطار التنسيقي” الكتلة المشكلة لحكومة السوداني الأخير إلى إخراج التحالف الدولي من البلاد.

وقال زعيم ميليشيا “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي إن على الحكومة “اتخاذ خطوات حاسمة لإنهاء وجود التحالف الدولي، وإخراج القوات الأجنبية بالسرعة القصوى”.

وتعد حركة “النجباء” إحدى أبرز الميليشيات المسلحة الموالية لإيران، التي تبنت منذ الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، عديداً من الهجمات على القواعد العسكرية التي تضم عسكريين أميركيين.

وعلى رغم استنكار حكومة السوداني اغتيال السعيدي، قالت وزارة الدفاع الأميركية على لسان المتحدث الرسمي بات رايدر، إن قوات الأمن العراقية أسهمت في تحديد الشخصيات التي تقف خلف الهجمات على القواعد الأميركية.

في المقابل نفت السلطات العراقية تصريحات البنتاغون في شأن أي تنسيق بينه وبين قوات الأمن في هذا الإطار.

سياسة طهران “المزدوجة”

ويعتقد مراقبون أن ما دفع واشنطن إلى استهداف الجماعات المسلحة هو عدم قدرة الحكومة العراقية على إيقاف منسوب الهجمات، بعد سلسلة تحركات دبلوماسية أميركية كان آخرها زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) 2023.

ويرى الباحث في معهد “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” بلال وهاب أن نسق الرد الأميركي على الهجمات التي تشنها الفصائل الموالية لإيران في العراق كان تصاعدياً، إذ بدأ بـ”التحركات الدبلوماسية حتى انتهى به الأمر إلى الوصول لهذا الحد من التصعيد، نتيجة عدم إقناع تحركات الحكومة العراقية الجانب الأميركي”.

ويمثل ما حصل من استهداف القيادي في حركة “النجباء” وسط العاصمة العراقية بغداد “نقلة نوعية في سياق الرد الأميركي”، كما يعبر وهاب الذي يلفت إلى أنه يعني “نهاية زمن التصريحات والدخول في معادلة ردع جديدة”.

ويشير إلى أن واشنطن تسعى من خلال الاستهداف الأخير إلى إنهاء “السياسة المزدوجة” التي يلعبها حلفاء إيران في العراق، مبيناً أن الفصائل الموالية لإيران “تتخذ صفة المقاومة عندما تستهدف القواعد الأميركية، لكنها سرعان ما تنتقل للحديث عن السيادة عندما يأتي الرد الأميركي بوصفها قوات نظامية وحشداً شعبياً”.

ويؤكد وهاب أن الضربة التي استهدفت القيادي في حركة “النجباء” تأتي في سياق “إنهاء تلك الضبابية التي فرضتها طهران وحلفاؤها في لعبة الفصائل والحشد”، مردفاً أنها تمثل أيضاً “نهاية لسياسة جو بايدن في تخفيف حدة التوتر في العراق وأن استراتيجية الردع الأميركي قد عادت”.
 
مستقبل الوجود الأميركي

وتثير الأحداث الأخيرة عديداً من التساؤلات في شأن مستقبل التحالف الدولي في البلاد، إذ يعتقد الباحث في معهد “واشنطن” أن العملية الأميركية الأخيرة “ربما تعطي زخماً للفصائل في إنهاء وجود التحالف الدولي، خصوصاً مع بيان الحكومة العراقية الذي يعطي إشارات بإمكانية تكرار سيناريو الانسحاب الأميركي عام 2011”.

ويشير وهاب إلى أن عواقب احتمالية الانسحاب الأميركي من البلاد ستحددها الآلية التي يتم بها تحقيق هذا الانسحاب، ففي حال “خرجت واشنطن باتفاق سياسي كما حصل عام 2011 فربما يبقى التمثيل الدبلوماسي، أما إذا خرجت بطريقة عدوانية ومن دون اتفاق، فرد واشنطن لن يراعي وضع الحكومة العراقية”.

ويبين أن إدارة بايدن “راعت حكومة السوداني في الفترة الماضية على رغم اشتراك ميليشيات رئيسة مصنفة على قوائم الإرهاب كطرف رئيس فيها”، لافتاً إلى أن خروج القوات الأميركية بطريقة عدائية سيعني “إنهاء وجود السفارة والعلاقات الدبلوماسية والدعم الدولي والشرعية التي تحظى بها حكومة بغداد”.
 
كسر التوازن

وبدأ مسار الهجمات التي تشنها الفصائل الموالية لإيران باتخاذ مسار تصاعدي منذ الـ17 من أكتوبر، إذ بدأت العمليات باستهداف الوجود العسكري الأميركي في سوريا، ومن ثم انتقل تدريجاً إلى استهداف القواعد العسكرية داخل الأراضي العراقية.

ولعل ما أسهم بشكل مباشر في تغيير الاستراتيجية الأميركية إزاء تلك الجماعات، هو استهداف السفارة الأميركية وسط العاصمة بغداد بصورايخ عدة، تلاها استهداف قاعدة حرير في محافظة أربيل أدى إلى جرح ثلاثة جنود أميركيين الأسبوع الماضي.

وتهدف واشنطن إلى عدم تحول منطقة الشرق الأوسط إلى ساحة حرب إقليمية على أثر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما دفعها إلى استقدام قوات كبيرة إلى المنطقة في محاولة لردع إيران وحلفائها.

في السياق، يشير رئيس مركز “التفكير السياسي” إحسان الشمري إلى أن ما جرى خلال الأشهر الأخيرة الماضية من استهدافات وقصف متبادل بين الفصائل المسلحة والقوات الأميركية “كسر حالة التوازن التي تحدثت عنها حكومة السوداني على مستوى العلاقات الخارجية والتوازنات الداخلية”.

ويضيف لـ”اندبندنت عربية” أن الهجمات المتبادلة “وضعت حكومة السوداني في موقف ضعيف”، خصوصاً أنها أدت إلى “دفع العراق من جديد ليكون أرض اشتباك مفتوحة”.

ويمثل انتقال الصراع للساحة العراقية “نسفاً لجميع خطط السوداني”، كما يعبر الشمري، الذي يلفت إلى أن ما جرى من استهدافات “نسف فرضية الاستقرار الأمني التي كثيراً ما تحدثت عنها قوى (الإطار التنسيقي)”.

ويتابع أن “عدم خروج السوداني من سيطرة (الإطار التنسيقي) أثر بشكل كبير في حكومته”، مبيناً أن هذا الأمر قد يؤدي إلى “سيناريو حكومة معطلة تزيد من حجم الاستياء الشعبي نتيجة الإخفاق حتى الآن في الجوانب الأمنية والخدمية والاقتصادية”.

ولا يبدو أن مسار التطورات في العراق سيتوقف عند الحدود الدنيا للتصعيد، إذ يلفت الشمري إلى أن مسار “التفاعلات الداخلية باتت تنطلق باتجاه فرض سياسة بعيدة عن مسار الدولة”، مبيناً أن “خضوع السوداني لتلك الإرادة السياسية ستكون تداعياته كبيرة ليس على المستوى السياسي فقط بل على المستويين الأمني والاقتصادي”.

ويتابع أن ما يجري من أحداث على الساحة العراقية بات يجعل من “احتمالية الذهاب نحو انتخابات مبكرة أمراً وارداً”.

ويتوقع الشمري “استمراراً في استراتيجية الرد الأميركي التي شهدت تطوراً ملحوظاً خلال الأيام الأخيرة، في حال استمرار تصعيد الفصائل ضد الوجود الأميركي في العراق”.
 
سيناريو حكومة عبدالمهدي

وعلى رغم الضغوط الحادة التي تواجهها الحكومة العراقية، يرجح أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي “استمرار نهج التوازن كجزء رئيس من استراتيجية حكومة السوداني”، مبيناً أن “اتجاه العراق بشكل مطلق نحو المحور الإيراني سيدخل البلاد في دوامة من الأزمات”.

ويأتي التصاعد في نسق الضربات الأميركية على الميليشيات الموالية لإيران في العراق “مدفوعاً بالمخاوف من توسيع رقعة الصراع في الشرق الأوسط”، إذ يعتقد الفيلي أن واشنطن تحاول من خلال الضربات المتكررة على الفصائل المسلحة “تحييد حراك تلك الجماعات بالتزامن مع أحداث غزة وتداعيات ما يجري في مضيق باب المندب”.

ويمثل وجود “رأسين للدولة العراقية” من خلال فصائل غير خاضعة لإرادة السلطة إشكالية كبيرة بالنسبة إلى حكومة السوداني، كما يعبر الفيلي الذي يلفت إلى أن هذا الأمر “يعرقل إمكانية خلق فرص للحكومة في إدارة التوازن سواء الداخلي أو الإقليمي”.

ويتابع أن حكومة السوداني باتت “تدرك أخطار إعادة تكرار سيناريو عادل عبدالمهدي عام 2019″، خصوصاً أن صانعي القرار في واشنطن “ما زالوا ينظرون إلى حكومة السوداني بوصفها غير خاضعة بشكل تام للفصائل المسلحة”.

ولعل ما يسهم في تخفيف الضغوط في الفترة الحالية على حكومة السوداني، بحسب الفيلي، هو “وجود أطراف رئيسة داخل الإطار التنسيقي لا تسعى إلى التصعيد وتدعم خطوات رئيس الحكومة”.

ويختم أن طهران أيضاً “غير راغبة في الفترة الحالية بدفع العراق نحو التخندق معها بشكل صريح”، لأنها تدرك أن “التداعيات ستكون وخيمة، خصوصاً كون العراق بات يمثل الرئة التي تتنفس منها إيران اقتصادياً”.

التعليقات معطلة.