حسن نافعة
خلال مشاركتها في مؤتمر دولي لتدعيم مكانة المرأة، عُقد أخيراً في القاهرة، أدلت وزيرة المساواة الاجتماعية في حكومة إسرائيل غيلا غلموئيل، بحضور وفود من مصر والأردن والمغرب، بتصريح قالت فيه: «لقد توصلت مراكز التفكير الإسرائيلية إلى نتيجة مفادها أن سيناء هي المكان الأنسب لإقامة دولة فلسطينية»، وهو الأمر الذي أغضب وزارة الخارجية المصرية التي احتجت رسمياً لدى تل أبيب.
وعقب ذلك، بثت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» وثائق زعمت أن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وافق منذ أكثر من ثلاثة عقود على توطين الفلسطينيين في مصر، لكنه اشترط أن يتم التوصل مسبقاً إلى اتفاق حول إطار عام لتسوية شاملة للصراع العربي- الإسرائيلي، وأشارت إلى أنه عبّر عن موقفه هذا في محادثات أجريت مع رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت ثاتشر، حين توقف في لندن وهو في طريقه عائداً من واشنطن عقب لقائه هناك الرئيس الأميركي رونالد ريغان. وبدوره، أصدر مبارك بياناً نفى فيه موافقته في أي وقت على توطين فلسطينيين في مصر، مجدداً رفضه القاطع التنازل عن حبة رمل واحدة من تراب مصر.
في سياق التعليق على هذين الحادثين، غصت وسائل الإعلام المصرية والعربية بتحليلات وتقارير أشارت فيها إلى المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى اقتطاع جزء من شبه جزيرة سيناء، تصل مساحته إلى مئات عدة من الكيلومترات المربعة، في إطار سعيها الى إنشاء «وطن بديل للفلسطينيين». وأكدت هذه التحليلات أن المحاولات الإسرائيلية على هذا الصعيد دخلت مرحلة جديدة وخطرة في الآونة الأخيرة بعد تجدد الحديث عن «تسوية إقليمية للقضية الفلسطينية» في إطار ما يسمى «صفقة القرن» التي يقال أن الرئيس دونالد ترامب سيطرحها في مؤتمر دولي يعتزم الدعوة لانعقاده في صيف العام المقبل في واشنطن. وعلى رغم أن قضية «الوطن البديل للفلسطينيين في سيناء» ليست جديدة، إلا أن عودة الحديث عنها مجدداً، وبهذه الكثافة، أمر يثير الريبة.
ويلاحظ أن الجدل الذي ثار حول هذه القضية انطوى، في تقديري، على خلط متعمد بين ثلاثة أبعاد يتعين الفصل بينها. البعد الأول يتعلق بحقيقة وجود خطط إسرائيلية لتوسيع مساحة قطاع غزة على حساب سيناء، وما إذا كانت هذه الخطط، في حال وجودها، هي مجرد أفكار واجتهادات تمثل وجهة نظر أصحابها أم أنها تحولت إلى سياسة رسمية. البعد الثاني يتعلق بالنهج الذي سلكته إسرائيل لتسويق هذه الخطط، وما إذا كانت طرحت في وثائق نوقشت في مفاوضات رسمية، أم أن الإفصاح عنها يتم بطريقة غير رسمية بهدف جس النبض والتعرف الى ردود الفعل. البعد الثالث: يتعلق بموقف مصر من تلك الخطط.
في ما يتعلق بالبعد الأول، أعتقد أنه لم يعد هناك مجال للشك في أن إسرائيل تسعى منذ زمن طويل الى توطين الفلسطينيين خارج ما تعتبره حدود دولتها وأرضها «التاريخية» أو «الموعودة»، وتعاملت مع سيناء باعتبارها المتنفس الطبيعي لقطاع غزة المكتظ بالسكان والذي تعجز مساحته الضيقة وموارده المحدودة عن توفير حياة كريمة أو ضمان مستقبل زاهر لسكانه. ولأن إسرائيل لا تزال تصر على استمرار بناء المستوطنات في الضفة، وترفض عودة اللاجئين إلى ديارهم وفقاً لقرار الجمعية العامة رقم 194، وتطالب بالاعتراف بها «دولة لليهود» شرطاً مسبقاً للتوصل إلى تسوية، فمن المنطقي أن تهتم إسرائيل، رسمياً وشعبياً، بالبحث عن «وطن بديل» للفلسطينيين، وأن تكون سيناء في مقدم المناطق المستهدفة لهذا الغرض. وبوسع أي باحث مهتم أن يعثر في المواقع الإلكترونية على عشرات وربما مئات الأبحاث والتقارير التي تناولت هذه المسألة وتضمنت «رؤى» أو «طروحات» إسرائيلية متباينة حول «سيناء في مخططات التسوية المقترحة للقضية الفلسطينية»، لكنها جميعاً تتمحور حول فكرة مركزية تدور حول «تبادل الأراضي». أي أن المطروح ليس «الاستيلاء» على مساحة من سيناء وضمها إلى قطاع غزة لتشكيل «وطن فلسطيني قابل للحياة والاستمرار»، وإنما تبادل الأراضي بين مصر وإسرائيل بطريقة تساعد على إيجاد تسوية ما للقضية الفلسطينية. ويلاحظ هنا أن مساحة الأراضي المقترح تبادلها تختلف من أطروحة إلى أخرى، وتتراوح بين 600 و720 كلم مربع بين رفح والعريش ويفترض أن تتنازل عنها مصر لتسهيل عملية التسوية، مقابل منطقة تتراوح مساحتها بين 150 و200 كلم مربع تقع في صحراء النقب ويفترض أن تتنازل عنها إسرائيل إلى مصر، إضافة إلى «كوريدور» عابر للنقب يتم التنازل عنه ليصبح طريقاً برياً يربط بين ما تبقى من أراض فلسطينية في الضفة الغربية وبين الدويلة المزمع إنشاؤها في قطاع غزة «الموسع». ولأن مساحة الأراضي المتبادلة ليست متكافئة، تقترح الأطروحات المختلفة تعويض مصر بمعونات مالية تتراوح بين 100 الى 150 بليون دولار لمساعدتها على الخروج من أزمتها الاقتصادية الراهنة، بالإضافة إلى تنفيذ مشروعات أخرى كثيرة في مجالات الطاقة وتحلية مياه البحر.
وفي ما يتعلق بالبعد الثاني، لا يوجد في حدود علمنا ما يشير إلى أن إسرائيل طرحت مقترحات من هذا النوع في مفاوضاتها الرسمية مع أي من الأطراف المعنية، خصوصاً في المراحل الأولى من هذه المفاوضات. يصدق هذا على مفاوضاتها مع مصر في كامب ديفيد وكذلك في المفاوضات التي أفضت إلى إبرام معاهدة سلام منفردة بين البلدين، كما يصدق على مفاوضاتها مع منظمة التحرير الفلسطينية والتي أفضت إلى إبرام اتفاقية أوسلو. فقد تركز الهدف الإسرائيلي خلال تلك المراحل التفاوضية المبكرة على تجزئة الصراع ورفض الدخول في أي مفاوضات جماعية مع الدول العربية لتجنب البحث عن أسس الحل الشامل منذ البداية. لذا فضلت إسرائيل نهج المفاوضات الثنائية مع كل طرف عربي على حدة، لإضعاف مصر أولاً، بإخراجها من المعادلة العسكرية للصراع، ثم منظمة التحرير الفلسطينية، بإسقاط خيار الكفاح المسلح نهائياً من استراتيجيتها. وحين أصبحت البيئة الإقليمية والدولية أكثر ملاءمة للحديث عن أسس لتسوية شاملة، بدأت إسرائيل تفصح عن نياتها تجاه سيناء في محادثات ولقاءات رسمية، مع الحرص في الوقت نفسه على عدم تقديم وثيقة مكتوبة. ومن الواضح أنها بدأت تفكر جدياً في سيناء كوطن بديل للفلسطينيين منذ قرار شارون بالانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، بل ربما اتخذ هذا القرار ضمن استراتيجية متكاملة تقوم على رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة في حدود 1967 والضغط في اتجاه إقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء. وقد ذكر مبارك نفسه، في البيان الذي نشره رداً على ما جاء في وثيقة «بي بي سي»، أن نتانياهو تحدث معه مباشرة في هذا الموضوع عام 2010.
وفي ما يتعلق بالبعد الثالث، فقد رفض رؤساء مصر السابقون توطين الفلسطينيين في سيناء ولم يوقع أي منهم أي وثيقة تتضمن التزاماً مصرياً بهذا الخصوص، وذلك لسبب بسيط وهو أن القضايا الإشكالية الأخرى، بخاصة قضية القدس، لم يتم التوصل إلى حل مقبول في شأنها، فضلاً عن أن الفلسطينيين أنفسهم يرفضون من حيث المبدأ فكرة الوطن البديل. ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى أن الوقت الراهن مختلف عن كل ما سبقه، وأن العالم العربي في أضعف حالاته، لذا يبدو أن الضغط الإسرائيلي والأميركي في هذا الصدد سيتجدد حتماً.