شباب أغراب فـي أوطانهم

2

نجوى عبداللطيف جناحي

.. وأنا أقف أمام السبورة أخطُّ عليها الدروس، وأقعد على طاولة المُعلِّم، أرصد بنظري كُلَّ طالب وطالبة بالقاعة الدراسيَّة، أراقب مدى انتباههم وأقرأ ردود فعل كلماتي على وجوههم وكأنَّ تعابير وجوههم صدى لكُلِّ ما أقول، وسيظل طموحي صناعة أجيال متألقة وبناء شخصيَّة شباب قادرين على أن يكُونُوا بناة لأوطانهم، فأن أكوِّنَ أكاديميَّة هو مصدر اعتزاز لي، وهو طموح والدي وطموحي منذ صغري.

ولطالما تعجُّ نفسي بالأحاديث، ويدور الحوار بداخلي وكأنَّ بداخلي طالب مُنصت، طالب طموحه أن يتعلم ويتطور، فالسكون عند نقطة واحدة ليس من طباعي، وكم اجتهدت لأطوِّر نفسي لأواكب عقليَّة طلابي، فأكسر حواجز الأجيال بَيْني وبَيْنَهم، فأتابع المستجدَّات، فتارة أتعلَّم استخدام الحاسوب وتوظيفه في كُلِّ مجالات الحياة، وتارة أتعلَّم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرَّقمي، وتارة أخرى أتابع المستجدَّات في مجال الذَّكاء الاصطناعي، فأجدني أعدو وألهث وكأنَّني في سباق خطٍّ نهايته سراب في سراب، علَّني أواكب جديد عالمنا، فلا أسمح بخلق الفجوة بَيْني وبَيْنَ الأجيال الجديدة.

ولكن يبقى السؤال: على مَن تقع مسؤوليَّة تضييق الفجوة بَيْنَ الأجيال؟ هل تقع على عاتق الجيل القديم؟ أم هي مسؤوليَّة الجيل الجديد؟ والواقع أنَّ القضيَّة أكبر من متابعة المستجدَّات لتضييق الفجوة بَيْنَ الجيلين، بل هي قضيَّة تجاهل الجيل الجديد لمعرفة ثوابت ثقافتنا، تلك الثوابت الَّتي هي حبل غليظ يربط بَيْنَ الأجيال فيعتصمون به ليكوِّنُوا مُجتمعًا متماسكًا.

وجَّهتُ أسئلة لطلبتي حَوْلَ بعض المعالم في وطننا العزيز لأقيس مدى إلمامهم بثقتنا الوطنيَّة، تلك المعالم الَّتي عرفناها منذ نعومة أظافرنا حتَّى باتت من المسلَّمات، معالم لطالما مررنا بديارها، ولكم جلنا في أروقتها مرحين فخورين بوطننا، فتلك القلعة الأثريَّة الشامخة تحمل ذكريات طفولتنا، وتلك المدرسة القديمة الَّتي درس فيها جدُّنا لطالما حكى لنا عن ذكرياته فيها حتَّى صرنا نعرفها جيِّدًا، ونعرف مكانها وكأنَّها علم، وهناك المطار القديم الَّذي أقلعت منه أول طائرة جالت بسماء بلادنا كان هو خلفيَّة لصوَرنا عندما كنَّا صغارًا. وأزقَّة لمناطق قديمة لطالما عجَّت بصراخنا وضحكاتنا.. نعم نعرف كُلَّ مَعْلَم من معالم بلادنا، نعرف الطريق إليها وأين تقع، ونعرف قصَّتها وخلفيَّتها حتَّى باتت جزءًا من ثقافتنا. إلَّا أنَّ طلبتي لم يعرفوا إجابة الأسئلة الَّتي سألتهم عن معالم بلادنا، هم لا يعرفون اسمها، ولا موقعها، ولا القصص الَّتي تختبئ في زواياها، حتَّى شعرتُ بأنَّني أمام شباب أغراب عن بلادنا.

هنا أدركتُ أنَّ الفجوة بَيْنَ الأجيال تتسع؛ ليس لأنَّ الجيل القديم لم يتابع المستجدَّات ليواكب مَسيرة الجيل الجديد، بل لأنَّ الجيل الجديد لا يعرف وطنه، لا يعرف تاريخه، يجهل معالمه التاريخيَّة من قلاعها وحصونها ومساجدها ومدارسها، وجسورها.. فهذه الأشياء هي من الماضي البعيد الَّذي يصعب قراءته، ولرُبَّما لا يعني لهم شيئًا، وتكمن المأساة أنَّك تجد الإجابة حاضرة لدَيْهم عندما تسألهم عن متحف اللوفر في فرنسا، أو برج بيتزا في إيطاليا أو قوس النصر في فرنسا هم يعرفونها جيِّدًا فيجيبون بكُلِّ اعتزاز عن كُلِّ سؤال حَوْلَها؛ لأنَّهم زاروا هذه الأماكن وقرأوا عنها خلال أسفارهم لهذه الدول.

نعم.. باتتِ الفجوة تتسع بَيْنَ مواليد الألفين ومواليد التسعينيَّات، فالفجوة كبيرة بَيْنَ هذا الجيل الجديد والأجيال الَّتي تسبقه حتَّى لو سبقته بالقليل من الزمن، جيل غريب عن وطنه فهو منغمس في شاشة هاتفه، حتَّى باتَ لا يعرف من حوله ولا يعرف وطنه، هو منغمس في وسائل التواصل الاجتماعي يتحاور مع شباب من جميع أنحاء العالم وينسى التواصل مع أهله وأقاربه، هو منغمس في الألعاب الإلكترونيَّة، فلا وقت عنده لزيارة الأقارب أو اللعب مع الجيران أو زيارة معالم بلاده، هو منغمس في عالم افتراضي بعيد كُلَّ البُعد عن محيطه، حتَّى باتَ مغيبًا عن عالمنا.

لهف نفسي!!! لا أدري مَن المسؤول عن تغريب شبابنا، عن إقصائهم عن ثقافة أوطانهم؟! أهو خادمات كنَّ هنَّ المسؤولات عن تربيتهم وهم أطفال؟ أم أُمَّهات وآباء ضربوا المسافات بَيْنَهم وبَيْنَ أبنائهم لانشغالهم؟ لا أدري مَن المسؤول؟ أهو حضانات ورياض أطفال ومدارس تقاعسوا عن التنويع في طرق تدريس الأطفال، فعزفوا عن ترتيب رحلات للأطفال لزيارة أهم معالم أوطانهم؟ أم صانعو محتوى في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام الرقمي وفي الإعلام الرسمي فعجزوا عن تقديم مادة إعلاميَّة تعرِّف الشَّباب بأوطانهم وتحفزهم لزيارة معالمها؟ إنَّ هذه التساؤلات قد لا تُشكِّل أهميَّة أمام سؤال حرج وهو: هل نستطيع أن ننقذ ما يُمكِن إنقاذه، فنعرِّف الشَّباب بثقافتهم وهُوِيَّتهم؟ وأرى أنَّ المبادرة يَجِبُ أن تلتزم بها المؤسَّسات التربويَّة بجعل الزيارات الميدانيَّة لمعالم البلاد إلزاميَّة كإحدى طرق التدريس، وأن يلزموا الطلبة بكتابة تقارير عن هذه المعالم فيضطروا للبحث والقراءة والتعرف على بلادهم… ودُمْتُم أبناء قومي سالِمِين.

نجوى عبداللطيف جناحي

كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية

متخصصة في التطوع والوقف الخيري

التعليقات معطلة.