خميس التوبي
أثار قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سوريا وإنهاء وجودها غير الشرعي أسئلة حائرة تبحث عن إجابات بدت معلقة بشأن الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار في هذا التوقيت بالتحديد.
صحيح أن الولايات المتحدة بدأت تشعر بالتعب، وهو شعور مجلَّل بالتسليم بالفشل والخسارة، وعري كل مشروعاتها في المنطقة نتيجة حالة الصمود التي أبدتها سوريا، وتنامي قوة محور المقاومة، وتنامي النفوذ الروسي، وقدرته على التعامل مع جميع التناقضات في المنطقة بالذكاء السياسي واحترام القانون الدولي والمدعوم بالقوة العسكرية الجبارة، إلا أنه ليس من عادة الولايات المتحدة أن ترفع الراية البيضاء دون مقابل، أو تناور دون الوصول إلى هدف. وصحيح أن قرار سحب القوات الأميركية غير الشرعية من أرض سوريا ليس هناك حتى الآن ما يدعمه ويؤكده، إلا أنه إن حدث لن يخلو من نتائج أو أهداف يريدها الكاوبوي الأميركي من وراء ذلك. ويمكن أن نستقرئ أسباب القرار وخلفياته على النحو الآتي:
أولًا: إن قرار الولايات المتحدة سحب قواتها غير الشرعية من الأراضي السورية هو قرار في جوهره يؤكد أمرين مهمين؛ الأول: الاعتراف بأن هذه القوات هي قوات احتلال طالما أنها لم تأتِ بطلب من الحكومة السورية الشرعية وموافقة منها، ووجودها مع ذلك يتعارض مع القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة. والثاني: الإقرار بالهزيمة والفشل في إمكانية إحداث تغيير جوهري على الجغرافيا السورية يكون مقدمة نحو تحقيق أحد الأهداف الرئيسية التي بني عليها المخطط الإرهابي لاستهداف سوريا، وهو تقسيمها وتفتيتها إلى كانتونات طائفية، بل إن ما ثبت لدى الكاوبوي هو العكس؛ أي استحالة تحقق هدف التقسيم والتفتيت، استنادًا إلى وقائع الميدان التي تؤكد أن الدولة السورية وجيشها وحلفاءها ـ التي استطاعت أن تصمد حوالي ثماني سنوات أمام أعظم مخطط إرهابي تكفيري تدميري ظلامي مدعوم من أكثر من ثمانين دولة، وتستعيد أكثر من تسعين في المئة من الأراضي المدنسة بالإرهاب التكفيري وبالوجود غير الشرعي ـ لن يعجزها أن تستعيد وتطهر ما تبقى من الأرض السورية، كما أن الكاوبوي بات على يقين تام بأن رهانه على أدوات الخيانة والانفصال من داخل سوريا لتقود هدف التقسيم والتفتيت إلى التحقق رهان محكوم بالفشل في ظل استعادة الدولة السورية عافيتها، وفرض هيبتها وسيادتها على الأراضي المدنسة والمغتصبة، وتعاظم قوتها، وفي ظل رفض تركي مطلق قيام إقليم كردي مستقل عن سوريا ومعادٍ لتركيا، وفي سبيل منع ذلك لا يزال يهدد باستخدام القوة والتدخل في مناطق سيطرة ميليشيات الانفصال الكردية.
ثانيًا: استنادًا إلى هذه القناعة، في تقديري، إن قرار الرئيس دونالد ترامب العزم على سحب قوات بلاده من الأراضي السورية ـ إن ثبت ودلت الوقائع والشواهد على مصداقية القرار ـ هو قرار ينطوي على شرَك أُعد لضرب أكثر من عصفور، ويمكن استلماحه من خلال الآتي: أولًا: هناك محاولة أميركية ـ أطلسية ـ إسرائيلية جادة لجر تركيا من المحور الروسي ـ الإيراني، وإعادتها إلى بيت الطاعة الأطلسي لكونها قوة كبيرة داخل الحلف، وليس من السهل إعادتها في ظل الأحلام القديمة التي لا تزال تعشش في مخيلة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلا بإغراء يرى فيه إردوغان الخيط الموصل إلى تحقيق الأحلام، وهو أن يكرر الكاوبوي فعلة المستعمر الفرنسي ذاتها الذي سلم تركيا لواء أسكندرون السوري، بأن يسانده في السيطرة على الشمال السوري كمدينة عفرين ومنبج وإدلب والرقة وأجزاء من حلب. لذلك الانسحاب الأميركي ـ إن حصل ـ سيفسح المجال أمام الأحلام التركية. ثانيًا: من الوارد جدًّا أن الكاوبوي يرى في الوجود التركي غير الشرعي والوجود الإرهابي التكفيري قوة بالوكالة قادرة على خلط الأوراق وإعادة الأوضاع في سوريا إلى مربعها الأول، بحيث يتكفل هو ومن معه في الإقليم وحلف شمال الأطلسي بتقديم الدعم اللازم لاستمرار الصراع واستنزاف الخصوم وهم (سوريا وروسيا الاتحادية والجمهورية الإسلامية الإيرانية والمقاومة اللبنانية)، ذلك أن الأطراف الإقليمية وفي مقدمتها كيان الاحتلال الإسرائيلي وقوى الحلف الأطلسي لديها الثقة والاطمئنان في تحقيق أحد أهداف مخطط استهداف سوريا إذا ما نجحت تركيا ومن معها في السيطرة على مناطق واسعة من سوريا وتسعى إلى اغتصابها. ومن يدقق في كلام ترامب إن “منظمة داعش تستهدف الدولة السورية وروسيا وإيران، فليحاربها هؤلاء ولماذا يجب علينا أن نكون شرطي العالم، فنتعرّض للقتل بدلًا من الآخرين وننفق أموالنا” يدرك حجم النيات المبيتة من هذا الكلام، فأقل ما يمكن أن يفهم منه أن الإرهاب التكفيري بذراعيه الكبيرتين “داعش والنصرة” سيستمر وسيقوى أكثر لا سيما حين يكون بجوار قوة عسكرية كبيرة كتركيا. ومؤدى هذا هو انهيار التوازن القائم الذي أقامته كل من روسيا وإيران وتركيا في شرق الفرات وشمال سوريا عبر تفاهمات أستانة وسوتشي، ما يعني إمكان احتدام الصراع شرق الفرات مع انقلاب تركيا على التفاهمات، ودخولها ومن معها بالوكالة عن الكاوبوي الأميركي. ثالثًا: يدرك الرئيس ترامب أن وجود قوات أميركية غير شرعية في سوريا وفي العراق هي ورقة قوية في يد كل من سوريا والعراق وحلفائهما، ومن شأنها إيقاع الوجع والألم، وإفشال أي خطوة أميركية بالتصعيد ضدهما أو ضد حلفائهما. لذلك وجود هذه القوات سيعرقل أي خطوة قادمة تخطط لها الولايات المتحدة وأتباعها كعمل عسكري مباشر ضد دول بالمنطقة كسوريا أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية، أو كتحريك مجموعات إرهابية ضد إيران، أو روسيا الاتحادية على خلفية الخلافات الحادة بين موسكو وواشنطن على خلفية أزمة أوكرانيا والصواريخ النووية.
ثالثًا: ربما يريد الرئيس ترامب أن يضع الأطراف التي طالبها سابقًا بتمويل الوجود غير الشرعي للقوات الأميركية في سوريا أمام الأمر الواقع، فترامب هنا يتصرف بعقلية الاقتصادي والتاجر البحتة، وليس بعقلية السياسي؛ أي يريد تدمير المنطقة لصالح حليف بلاده الاستراتيجي كيان الاحتلال الإسرائيلي وتأمين بقائه بأموال نفطها وثرواتها، ودماء شعوبها، بزعم أن تسخير كل ذلك هو من أجل توفير الحماية الأميركية لمن طالبهم بالتمويل.
السؤال الذي يطرح ذاته بعد أن نكت الأكراد ـ ليس كلهم ـ نكتة سوداء جديدة في تاريخهم المليء أساسًا بالنكت السوداء بطعنهم الوطن السوري، وتخندقهم مع أعدائه هو: هل يمكن أن نرى تحالفًا بين تركيا والأكراد أو اتفاقًا بينهما على إقامة إقليم كردي ذاتي بإشراف تركي؟ الأيام القادمة ستكون حبلى بالمفاجآت وبمزيد من الحقائق والأحداث.