مقالات

شراع: عدوان تركي على أرض عربية بخلفيات عثمانية

خميس التوبي

لا يمكن وصف زحف الجحافل العسكرية التركية المسنودة بالعديد من فلول عدد من التنظيمات المسلحة والمرتزقة وبائعي الذمم والوطن المغرر بهم من السوريين، إلا بأنه عدوان تركي موصوف بالنظر إلى مخالفته القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، ولما ترتب عليه من انتهاك صارخ لسيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، وكذلك بالنظر إلى المستندات التي أراد العدوان أن يتعكز بها للتبرير، مخلفًا وراءه كومة من المزاعم والمغالطات لا تمت عند قياسها مع الواقع بصلة، وإنما هي عبارة عن مستندات مجردة من جميع الشعارات التي رُفعت ولا تزال ترفع، فبدت شعارات جوفاء خالية من أي ذرة ضمير أو إنسانية، تجلى ذلك في عدة شواهد لخصت حقيقة ما يراد لسوريا وشعبها وقيادتها، ومن بينها:
أولًا: فتح الحدود أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين التكفيريين والمرتزقة وأصحاب السوابق والإجرام، وإنتاج التنظيمات الإرهابية، والتكفل بتدريبها وتمويلها وتسليحها، وبناء الرهان عليها لتحقيق الأجندة الاستعمارية والأهداف التخريبية والتدميرية للدولة السورية، فلم تتورع تلك التنظيمات الإرهابية عن ارتكاب الموبقات والفساد ضد الشعب السوري وبلاده.
ثانيًا: التدمير الممنهج للاقتصاد السوري بدءًا من العقوبات الاقتصادية الجائرة، ومرورًا بتدمير المصانع ونهب آلاتها وتهجير أيديها العاملة الماهرة والخبيرة، وتخريب المزارع والصوامع، وتدمير آبار النفط وأنابيبه.
ثالثًا: التهجير القسري للمدنيين واستخدامه ورقة ابتزاز في وجه الأوروبيين، سواء لجلب المال والارتزاق من وراء حقوق هؤلاء المهجرين، أو لإسكات أصواتهم وإرغامهم على عدم إبداء أي موقف يتعارض مع ما يدور داخل سوريا.
إن المتاجرة بحقوق الشعب السوري والتذرع بالدفاع عنها وادعاء الحرص على مساعدته حتى تحقيق تطلعاته هي وصمة عار على جبين المتآمرين والغزاة، فاختلاق الذرائع والحجج الباطلة والواهية بات بالنسبة لمعشر المتآمرين والغزاة مثل شرب الماء دون احترام وتقدير للذات الإنسانية ومشاعرها، حيث الأطماع الاستعمارية والأحلام العثمانية تتبدى على صفحة المشهد السوري في صور متتالية ومتعددة، ضحيتها الشعب السوري ووطنه. إن الشعب السوري ليس بحاجة إلى ما يسمى بـ”مناطق آمنة” وغير ذلك من البدع، وإنما هو بحاجة إلى أن يكف معشر المتآمرين والغزاة أيديهم عن دعم الإرهاب التكفيري، وأن يرفعوا أيديهم عن سوريا، وأن يرحلوا من أرضها وينزاحوا من على صدور أهلها، وأن يحترموا إرادة الشعب السوري وسيادة بلاده ووحدتها واستقلالها، فهذا هو غاية المطالب السورية اليوم.
يبدو القادة الأتراك وهم يغزون دولة عربية مسلمة في حالة انتشاء غير مسبوقة، مأخوذين بالماضي المليء بالدماء والحروب والاستعمار، لدرجة أن قواتهم التي زجوا بها برفقة التنظيمات الإرهابية التي ترعاها المخابرات التركية أطلقوا عليها اسم “الجيش المحمدي”، وهذا الانتشاء يعيد بذاكرة الإنساني العربي المسلم الشريف صورة ذلك الانتشاء المؤلم والمقيت الذي كان عليه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش “الصغير” حين أطلق على غزوتيه في أفغانستان والعراق مسمى “الحروب الصليبية”. فأصبح لكل من التركي والأميركي حربه المقدسة.
عند النظر إلى الاعتبارات التي استند إليها الأتراك لغزو سوريا، والاستعدادات التي يبديها الأكراد لصد الغزو، يتساءل المتابعون والمراقبون لوقائع الأحداث عن دور حلفاء سوريا (روسيا وإيران وحزب الله) وعن أسباب اختفائه؟ وعن موقف سوريا الميداني وليس السياسي الذي عبَّرت من خلاله رفضها للتدخل التركي وعدَّته عدوانًا. من الواضح أن صمت الحلفاء يحمل في طياته الموافقة الضمنية على ما يجري بين تركيا القوية والميليشيات الانفصالية الموالية للصهيو ـ أميركي والمسماة اختصارًا بـ”قسد”، والسماح لتركيا بتصفية حساباتها مع من تقول إنهم يشكلون خطرًا على أمنها القومي، واقتلاع هذا الخطر من جذوره.
صحيح أن الأتراك بقرارهم الاعتداء على سوريا وغزوها قد برهنوا على ما كان ثابتًا لدى غيرهم بأن مدفعهم السياسي ليس فيه ولا قذيفة، بالإضافة إلى دورهم في تعطيل الحل السياسي، إلا أن العدوان التركي ـ وبعيدًا عن الإتيان على أسباب صمت حلفاء سوريا ـ له نتائج عديدة منها:
أولًا: إن خيانة الوطن يعد من كبائر الجرائم، وبيع الذمم والوطن للأعداء والغزاة وصمة عار على الجبين لن تزول، ومصير كل من باع ذمته ووطنه تحت طائلة المال أو الجاه أو الانفصال أو السلطة في مزابل التاريخ طال الزمان أم قصر.
ثانيًا: إن ارتهان الأكراد بالولايات المتحدة وحليفها كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتنفيذ ما تمليه عليهم ليس خطيئة كبرى في حق سوريا لن تغتفر فحسب، وإنما يؤكد ما قاله مصطفى الفقي أثناء ثورة الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك بأن “المتغطي بأميركا عريان”؛ فانسحاب القوات الأميركية لتمهيد الطريق أمام القوات التركية ومن معها لتنقض على الميليشيات الانفصالية “قسد” يكشف أن هذه الميليشيات ليست سوى ورقة بيد واشنطن ومتى شاءت رميها أو حرقها فعلت، وما فعلته واشنطن اليوم بالأكراد لن يكون الشاهد الأخير.
ثالثًا: كلٌّ من التركي والكردي الانفصالي لهما دور خطير ضد سوريا وشعبها، فتركهما يفترسان بعضهما بعضًا لا يعيد ما أريق من دماء السوريين، ولكنه قد يكون تخفيفًا لحجم الآلام التي لا يزال يدفع فاتورتها الشعب السوري.
رابعًا: المواجهة القائمة بين الأتراك والأكراد تعني القضاء على الحلم الصهيوني ـ الكردي بإقامة “إسرائيل” الثانية في شمال سوريا، وهو ما يقض مضاجع الصهاينة اليوم، وتحميلهم المسؤولية للرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعطائه الأمر بانسحاب القوات الأميركية، وإعطائه الضوء الأخضر للأتراك. كما تعني المواجهة حتمًا أن الطريق نحو تحقق الحلم العثماني باستعمار أراض سورية جديدة وإلحاقها بلواء الأسكندرون لن يكون مفروشًا بالورود، وفي الوقت ذاته ستعجل المواجهة بتحرك سوريا وحلفائها نحو تطهير إدلب من الوجود الإرهابي التكفيري.
خامسًا: العدوان تسبب حتى الآن في نزوح حوالي مئتي ألف مدني سوري، وإطلاق سراح 785 إرهابيًّا من تنظيم “داعش” وهذا يضع علامات استفهام كبرى، ويعمق حقيقة ما ثبت عن علاقات الأبوة والأمومة بين معشر المتآمرين والغزاة وبين التنظيمات الإرهابية. وقد حذرت من مخاطر إنعاش “داعش” كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومنظمة الأمم المتحدة.
سادسًا: من الوارد أن يكون لهذا العدوان ثمنه سياسيًّا واقتصاديًّا داخل تركيا، خصوصًا في حال فشله، ودخلت أنقرة في عملية استنزاف عسكري كبير.