مقالات

شراع : من خاركوف إلى مزيد من الألم

في الوقت الذي تزداد فيه أزمة الطاقة أوروبيا سوءًا، ويتحمَّل المواطنُ الأوروبي دافع الضرائب مزيدًا من الأعباء الحياتية والمعيشية؛ نتيجة تفاقُم الوضع جرَّاء العقوبات الغربية المشدَّدة على روسيا الاتحادية، كان لا بُدَّ من إنجاز يُخفِّف حدَّة الوضع وسخونته شعبيًّا، فجاء الانتصار الإعلامي في خاركوف لامتصاص حالة الغضب الهادر الذي تشهده العديد من المُدن الأوروبية، والمُرشَّح لأنْ يتصاعد مع الاقتراب أكثر من فصْلِ الشتاء القارص، حيث ستكون القارَّة العجوز مُرشَّحةً ساعتئذ لمزيدٍ من التداعيات على الصَّعيد الاقتصادي والارتدادات الشَّعبية، إنْ لَمْ تحدث معجزة ما تنتشل الوضع القاتم، وهو الأمر الذي لَمْ تخفِ الولايات المُتَّحدة خشيتها من اندلاع مظاهرات عارمة تدفع الحكومات الأوروبية إلى تغيير مواقفها مُجبرةً بالضَّغط الشَّعبي، فتسقط كُلُّ الحسابات والمخطَّطات التآمرية الأميركية الموجَّهة ضدَّ روسيا الاتحادية ثمَّ الصين الشَّعبية.
ومن تابع المسؤولين الأميركيين على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية وهم يعتلون المنابر الإعلامية لتسويق الانتصار، وتقديمه على أنَّه جهد استخباري أنجلوساكسوني (أميركي ـ بريطاني) غير مسبوق، يقف على حقيقة أنَّ الضالعين في المخطَّط المُوجَّه ضدَّ روسيا باتوا في وضْع حرجٍ للغاية جرَّاء الارتدادات القاسية على أوروبا، سواء للعقوبات الاقتصادية الصَّارمة على روسيا أو الإنجازات العسكرية الروسية في منطقة الدونباس، لذلك كان لا بُدَّ من شيء ما يُقدَّم إلى المواطن الأوروبي ثمَّ الأميركي لتخفيف الوضع المُحتقِن، وهو ما تَمثَّل في التقدُّم الأوكراني العسكري في مدينة خاركوف.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن الجمعة (16 سبتمبر 2022) في مؤتمر صحفي في سمرقند خلال حضوره قمَّة منظمة شنغهاي للتعاون في أوزبكستان أنَّ “عملياتنا الهجومية في دونباس لا تتوقف، إنَّها تتقدم بوتيرة بطيئة، خطَّة العمليات لا تستدعي تغييرًا، لَسْنا مستعجلين”، مؤكدًا أنَّ “الجيش الروسي يحتلُّ مزيدًا من الأراضي الإضافية”. وأوضح الرئيس الروسي أنَّ بلاده “لا تقاتل بجيشها الكامل” بَلْ فقط بجنودٍ تمَّ التعاقد معهم، لافتًا إلى أنَّ الهدف الرئيسَ من العملية العسكرية يبقى “تحرير أراضي دونباس بالكامل”. وكرَّر بوتين أنَّ العملياتِ مستمرَّةٌ رغم الهجمات المُضادَّة التي يشنُّها الجيش الأوكراني في شمال شرق أوكرانيا وجنوبها. وقال “أعلنت سلطات كييف أنَّها بدأت هجومًا مُضادًّا كثيفًا. سنرى كيف سينتهي”.
من البدهي جدًّا في عالم الحروب أنْ تتبدل الخطط وتتغيَّر المواقف لدى الأطراف المتصارعة، ومع بلوغ الحرب الأطلسية ـ الروسية على الميدان الأوكراني شهرها التاسع، أصبحت الرؤية لهذه الأطراف واضحة تقريبًا، لا سِيَّما الطرف الروسي الذي يشاهد آلاف القطع العسكرية والأسلحة الفتَّاكة، والمُقدَّر قيمتُها بعشرات مليارات الدولارات، تتدفَّق على الأرض الأوكرانية، لجهةِ محاولة الطرف الأطلسي بقيادة الولايات المُتَّحدة كسْرَ عظم روسيا واستنزافها وإضعافها عسكريًّا وإنهاكها اقتصاديًّا، في حين أخذَ الطرف الروسي ـ كما يبدو ـ يقرأ ساحة ميدان المواجهة من أكثر من زاوية، مع ما يراه، في الارتدادات الشَّعبية ورجع الصدى في القارَّة العجوز، نتيجةً طبيعيةً لقرارات غير مدروسة وخطأ سياسات التبعية للولايات المُتَّحدة بالانخراط في مخططٍ لا ناقة فيه لأوروبا ولا جَمَل، أو هكذا يَجِبُ أنْ يكُونَ حالُها، خصوصًا وأنَّها تتمتع بثروات الطاقة الروسية من النفط والغاز النظيف وبأسعار مُيَسَّرة، مكَّنتِ القارَّة العجوز من تحقيق نهضة اقتصادية، وتحقيق مظاهر الرفاه ورغد العيش لمواطنيها.
في تقديري أنَّ انتصار خاركوف أطلسيًّا ليس سوى مُسكِّن ألَمٍ (حبَّتَيْ بندول)، لكنَّه سرعان ما سيزول أثَرُه ويعود الألَمُ مُجددًا، مع تبدُّل الخطط وأساليب المواجهة التي ستزاوج فيها روسيا بَيْنَ الجهد العسكري بصورة أكبر، والتضييق على أوروبا من حيث الغاز والنفط، خصوصًا مع وجود جهات كثيرة بديلة ترغب في شراء النفط والغاز الروسيَّين، وهذا له ارتداداته الشَّعبية أوروبيًّا، والعسكرية أطلسيًّا، يمكن أنْ تقود إلى صِدامٍ عسكري مباشر أو إلى مفاوضات.

خميس بن حبيب التوبي