خميس التوبي
وارسو .. مؤتمر خالف مضمونه عنوانه
يمكن القول إن مؤتمر وارسو الذي صاغت سيناريوه الولايات المتحدة وحليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الإسرائيلي وتكفلتا بذلك الإخراج الفانتازي المثير للسخرية، أراد منه الحليفان الاستراتيجيان أن يكون بوابة الانتقال من طريق ظل ثابتًا لدى المجموع العربي والإسلامي طوال عقود، إلى طريق آخر مغاير تمامًا، وليكون منصة للإعلان الصهيو ـ أميركي عن “عدو” جديد للمنطقة، بعد مرحلة ظل كيان الاحتلال الإسرائيلي هو العدو اللدود للمنطقة والعرب والمسلمين.
وما دام المؤلف والمخرج هما الحليفين الاستراتيجيين (الصهيو ـ أميركي) فإن عناصر الإثارة والتشويق لا بد أن تكون حاضرة لإضفاء مزيد من الأضواء على فانتازيا المؤتمر، بحيث يكون قادرًا على توجيه رسائله الجديدة بعنوانها الجديد، أن المنطقة “القديمة” أو كما يسميها الغرب منطقة الشرق الأوسط “القديمة” لم تعد كذلك، وإنما باتت المنطقة “الجديدة”. فحين رفضت أوروبا ـ عدا بريطانيا ـ الاشتراك في غزو العراق، وصفها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي الأسبق آنذاك بـ”أوروبا القديمة”.فكما يبدو أن الأميركيين والصهاينة يحبون الجديد الذي يواكب كل جديد لديهم من مشروعات استعمارية إمبريالية، ويكرهون كل قديم يرفض أو لا يواكب جديدهم، بل ويسخِّرون كل جهد لديهم لتغيير ما لا يوافق أهواءهم ومشروعاتهم وأجنداتهم.
لقد كان لافتًا ما كان يريده كل من المؤلفيْنِ لسيناريو مؤتمر وارسو والمخرجيْنِ له، وهو أن تكون الأضواء مسلطة على كومبارس اللقاء (بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي)، وذلك لما تعنيه من أشياء وترمز إليه من دلالات كثيرة، ليس أقلها ما كان محرمًا ومجرمًا بين المحتلين الإسرائيليين والعرب أضحى حلالًا، بل واجبًا، وكذلك لمحاولة رسم صورة ذهنية جديدة في المخيلة العربية والإسلامية بأن زمن العداء قد ولَّى وإلى غير رجعة، ولترسيخ هذه الصورة لا بد من تضخيم صورة العدو الجديد، وإضفاء عليها هالات خارجة عن السياق المعقول وذلك بهدف تغييب الوعي العربي والإسلامي، تلعب فيه وسائل إعلام قدمت أوراق اعتمادها للصهيو ـ أميركي دورًا حيويًّا، وأن التحالف مع الصديق الجديد (المحتل الإسرائيلي) هو ضمانة الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة في مواجهة أطماع العدو الجديد الذي يجب أن تستمر شيطنته.
مؤتمر وارسو العتيد حمل عنوان “مؤتمر السلام والأمن في الشرق الأوسط”، غير أن هذا العنوان كان مخالفًا جملة وتفصيلًا لجوهر المؤتمر وما تطرق إليه الملتئمون من قضايا ابتعدت كثيرًا عن مفهوم السلام والأمن، بل على العكس من ذلك، انطوى المؤتمر على العوامل والمسببات المضادة لمفهوم السلام والأمن والمعاكسة له.
وحسب فهمنا البسيط والمتواضع، فإن أهم وأبرز عوامل تحقيق السلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط هو حل القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي أراد الصهيو ـ أميركي ومن معهما اختصاره وتضييقه إلى الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وذلك باعتراف كيان الاحتلال الإسرائيلي بحقوق الشعب الفلسطيني، وحقه في إقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى وطنهم وأرضهم، والتزام الكيان الإسرائيلي باستحقاقات السلام، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة، والتخلي عن جرائم الحرب، والانتهاكات والممارسات العنصرية، والامتناع عن الاستيطان الاستعماري بقصد تغيير الجغرافيا والديموغرافيا معًا لصالح مشروع الاحتلال الإسرائيلي.والاعتراف بحقوق شعوب المنطقة في الأمن والاستقرار والتنمية، وسيادتها على ثرواتها.والمؤسف أن هذا لم يحصل في المؤتمر الذي جعل منه الصهيو ـ أميركي مناسبة لاستكمال حصاد ما سمي بـ”الربيع العربي” لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتمدد هذا المشروع الاحتلالي في المنطقة، وتأمين بقائه، وضرب أي مهدد له، بل وتشكيل تحالف لمواجهة المهددات والأخطار التي قد تهدد بقاء المشروع الاحتلالي الإسرائيلي في المنطقة، الأمر الذي نقل ما كان انطباعًا إلى يقين بأن ما يعده الصهيو ـ أميركي هو طبخة السم للقضاء على القضية الفلسطينية وتصفيتها، عبر تنفيذ مرحلي لما يسمى بـ”صفقة القرن”. هذا اليقين هو الذي دفع الفلسطينيين إلى مقاطعة المؤتمر، وعدم رغبتهم في حضور مشهد جنائزي يشاركون فيه لدفن قضيتهم العادلة.
لذلك لا نستغرب أن يعتلي مايك بنس نائب الرئيس الأميركي منصة المؤتمر داعيًا عبرها الأوروبيين، وتحديدًا البريطانيين والفرنسيين والألمان، للانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وتهديد الشركات الأوروبية التي تتعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما يعكس حقيقة جوهر المؤتمر، وابتعاده عن معاني مفهوم السلام والأمن في الشرق الأوسط.
الحقيقة، هي أن السلام والأمن في الشرق الأوسط لا يتحقق إلا بزوال الاحتلال الإسرائيلي عن المنطقة، وزوال جميع مظاهر الاستعمار الإمبريالي منها، وإلا فإن دوامة استنزاف المنطقة وشعوبها وقدراتها وثرواتها وغياب تنميتها واستقرارها ستستمر، وستستمر معها لعبة اختلاق الأعداء غير الحقيقيين وأساليب الخداع لتكون وسيلة الاستنزاف والاحتلال والاستعمار. لذا تبدو الحاجة ماسة إلى صوت العقل والمنطق لكبح جماح أباطرة الحروب وقادتها وتجارها.