كان الأردنيون في أيلول (سبتمبر) من عام 2021 على موعد مع حدث استثنائي شكل نقلة نوعية في واحد من أبرز الأعراف العشائرية، المتمثل بترحيل عدد كبير من أهل مرتكبي جرائم القتل وأقاربهم إلى مكان بعيد من مقر إقامتهم، في إجراء يُعرف بـ”الجلوة العشائرية”.
وكان عرفاً سائداً أن تُفرض الجلوة على أفراد عائلة الجاني لتصل في بعض الأحيان إلى الجد الخامس، ما يعني أن الترحيل قد يطال عشرات الأشخاص وعدداً كبيراً من الأسر، من دون أي ذنب ارتكبوه، وذلك لسببين، أولهما منع وقوع أعمال انتقامية بحقهم من جانب ذوي المجني عليه (فورة الدم)، والثاني إفساح المجال أمام الجهود العشائرية للسير في صلح بين الطرفين ينتهي بإعادتهم إلى ديارهم.
في 2021، أقرت وزارة الداخلية الأردنية ما سُمّيت “وثيقة ضبط الجلوة العشائرية” التي اقتصرت على الجاني وأبنائه الذكور ووالده، وأن لا تزيد مدتها على سنة قابلة للتجديد بموافقة الحاكم الإداري المختص، وذلك في إطار سعي الدولة إلى المضي بإصلاح هذا العرف العشائري الذي يعد ملفاً شائكاً يختلط فيه البعد القانوني بالاجتماعي والإنساني، وصولاً إلى مرحلة لا يدفع فيها غير المذنب “قانونياً” أي ثمن لأفعال غيره، وأن يتم الاحتكام فقط للقضاء. ومن شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، لا تكاد تجد منطقة في المملكة ذات الصبغة العشائرية، لم تشهد جلوة عشائرية أو أكثر على مر السنين. الأمر خلّف ولا يزال الكثير من القصص المأسوية المتمثلة بهجرة قسرية للعائلات وترك أفرادها أملاكهم ومصالحهم، والضرر الكبير الذي يطال الموظفين منهم والطلبة. وقائع صعبةقصة المواطن أبو سالم تلخص إلى حد بعيد فصول المآسي التي تنتج من الجلوات العشائرية، فبعدما أقدم ابن شقيقه على قتل شاب آخر قبل نحو 10 سنوات، أُجبر أبو سالم وعائلته المكونة من 7 أفراد، على الرحيل من محافظة إلى أخرى، ومعهم أشخاص كثيرون من أبناء العشيرة.
ووفق ما ذكر أبو سالم لـ”النهار العربي”، تحولت حياة العائلة إلى جحيم وتشرّد، مشيراً إلى أنهم سكنوا في منطقة لا يعرفون فيها أحداً وبمنزل مستأجر رغم أن بيتهم كان ملكاً لهم، وخسر أحد أبنائه محله التجاري الذي أُحرق بعد ارتكاب ابن عمه جريمة القتل، ولم يعد بإمكانه العودة إلى العمل فيه بسبب الجلوة، مثلما واجه أبو سالم صعوبات كبيرة في نقل سجلات اثنين من أبنائه إلى مدارس جديدة.
وحتى منتصف الشهر الجاري، تظهر أرقام وزارة الداخلية أنه تمت إعادة أكثر من 6 آلاف من الأشخاص الذين طالتهم الجلوات العشائرية إلى أماكن إقامتهم وسكنهم، بموجب “وثيقة 2021″، ومنهم أبو سالم الذي يؤكد أن تلك الوثيقة أنقذته وعائلته وكثيرين آخرين من مأساة حقيقية.
وعن رأيه بوثيقة الجلوة، يقول رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب الدكتور غازي الذنيبات لـ”النهار العربي”، إنها “إلى حد ما مُرضية، لكنها غير كافية، إذ لا بد من إنهاء موضوع الجلوة العشائرية بالكامل، كونها مخالفة دستورية وقانونية”. “إجراء متخلف”فملاحقة الناس بلا ذنب، وفق الذنيبات، “تعد إجراءً متخلفاً، وممارسة كانت قائمة في ظل غياب الدولة وغياب السلطة وغياب القانون، لكن الآن أصبحت جزءاً من التراث والماضي، ولا يجوز أن نظل متمسكين بهذا الجزء المزعج والمقلق الذي يشرد الأسر من دون وجه حق”.
ويضيف: “لم يعد مقبولاً إخراج الناس من بيوتهم وترحيلهم منها في ظاهرة اجتماعية سيئة، والأمر يجب أن ينتهي إلى غير رجعة، لكن بالنهاية كان لدى وزارة الداخلية حجّة بأن لديها قضايا حيّة وتريد أن تتدرج في الأمر كي لا تفتح باب المشاكل على مصراعيه”.
ويشير الذنيبات إلى أن الوثيقة طُبّقت حتى الآن بدرجة تصل إلى 80 في المئة، وأن موقف البرلمان والداخلية والحكومة متقدم بخصوص الجلوات العشائرية، وثمة رغبة من مرجعيات عليا في الدولة بإنهاء الملف بأسرع وقت.
وتحدث عن حالة واسعة من القبول للتوجهات الجديدة بشأن الجلوات، من شيوخ العشائر الأردنية ووجهائها، والتمسك ببنود الوثيقة الجديدة وتطبيقها بحذافيرها.
إلى غير رجعة؟ويتوقع الذنيبات أن “تنتهي مشكلة الجلوات في القريب العاجل إلى غير رجعة، لكن لا بد من تحريكها تشريعياً بمراجعة شاملة لها من مختلف الجهات المعنية، وهو ما نتطلع أيضاً أن يحدث في مجلس النواب لوضع حد نهائي لتلك المشكلة بالتنسيق مع وزارة الداخلية والحكومة”.
أما المحامي محمد وليد فيقول لـ”النهار العربي”، إن القضاء العشائري كان حاضراً بقوة في فترة ما قبل قيام الدولة الأردنية عام 1921، للفصل بين النزاعات العشائرية في ظل عدم وجود قانون أو نظام يحدد القواعد والأطر العامة للحقوق، لكن الأمر أصبح بمرور الوقت مختلفاً تماماً مع ترسيخ دولة القانون، والأصل أن يكون القول الفصل للقضاء في المحاكم المدنية، من دون إنكار أهمية وجود الدور العشائري الإسنادي في حقن الدماء والسيطرة على التداعيات، وتحديداً في ما تُعرف بـ”فورة الدم”.
ويشدد وليد على أن “الأردن دولة دستور وقانون يطبق على الجميع والعقوبة شخصية مرتبطة فقط بشخص الجاني ولا يجوز التوسع بها، بالإضافة إلى أن الأردن جزء من المجتمع الدولي ووقع على المواثيق الدولية التي تحمي كرامة الإنسان وحريته”، مضيفاً أن مواد الدستور الأردني تؤكد بأكثر من نص عدم جواز ترحيل أي مواطن خارج منزله وضمان حرية التنقل والسكن.