د. فايز رشيد
استشهد أربعة من أبناء شعبنا في القدس ونابلس ورام الله والبيرة برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم الخميس الماضي 13 ديسمبر، بعد مزاعم الاحتلال بأنهم استهدفوا جنوده! في الوقت الذي أثبتت فيه الأحداث أن قوات الاحتلال قلبت الدنيا رأسا على عقب بالتفتيش عن اثنين منهم وهما الشهيد أشرف نعالوة وصالح البرغوثي منفذي عمليتين موجعتين لجيش الاحتلال هما عمليتا عوفر الأولى والثانية، وهي التي هاجمت موقعيهما. فيما قتل جنديان من جيش الاحتلال بسلاح ناري بالقرب من مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة. إلى ذلك، اعتدى جيش الاحتلال على أبناء شعبنا في مناطق متفرقة من الضفة الغربية، واعتقلت 60 فلسطينيا. وفي وقت لاحق أعدم جيش الاحتلال الشهيد حمدان العارضة وهو يبلغ 60 عاما وهو من بلدة عرابة التابعة لمحافظة جنين. وقال جيش الاحتلال في بيان أصدره إنه حاول دهس مجموعة من الجنود الإسرائيليين. وفي وقت لاحق أعدمت القوات الإسرائيلية فلسطينيا في المنطقة الصناعية في البيرة.
أبطالنا تسلحوا بالإرادة والإيمان الوطني بحقوق شعبه وعدالة قضيته، وتجاوزوا كل المعيقات.. لم يكن بحوزة البعض منهم سوى أسلحة بسيطة وسكاكين، ومعاول. هؤلاء الشهداء… أحياء بيننا، يتجسدون في أرضنا سنديانة عتيقة.. زيتونة خالدة… فلسطينية اللون، والدم، والطعم، والرائحة. هؤلاء الشهداء جعلوا من دمائهم، لغة للتخاطب بين أسوار المدينة والغزاة… مع أن دمهم الفلسطيني هو أيضا حبر للتفاهم بين أشياء الطبيعة والإله. نعم: الفلسطينيون (وليس الفيتناميون وحدهم) قادرون على اجتراح المقاومة بأساليب ووسائل بسيطة، رغم كافة المعيقات والصعاب.
عمليات المقاومة وبخاصة في شهر ديسمبر تحولت إلى ظاهرة مقاومة جديدة، وشكلا مبتكرا من أساليبها: عجلات سيارة، حجر، سكين، معول. إنها أيضا دليل قناعة تشكلت ولا تزال لدى معظم الفلسطينيين بأن المقاومة هي الأسلوب الوحيد لردع الاحتلال واقتحامات المستوطنين والمستعربين للقدس وللأقصى ومحاولة هدمه وإقامة الهيكل المزعوم محله، وأن ردع خطواته لا يتم من خلال المفاوضات والتوسل وبيانات الاستنكار والشجب، وإنما من خلال القوة. العمليات ليست دليل “يأس” مثلما يحاول البعض تفسيره. العمليات أصبحت تحتذى نموذجا للتطبيق: طعن مستوطنين، دهسهم. كان ملاحظا أن غالبية من يقوم بالعمليات هم من الشباب، ممن يدركون حقيقته، وكيفية الرد عليه، والذين راهنت إسرائيل وفقا لمعادلة جولدا مائير بأنهم سينسون قضيتهم بعد موت الكبار.
العمليات هي رد الفعل الطبيعي على التنكيل الوحشي بشعبنا، أهلنا يواجهون اعتداءات متواصلة إجرامية من قوات الاحتلال وعصابات المستوطنين عليهم، كما يجري تهويد للقدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، يتم قتل العديدين منهم وبدم بارد، مذابح دائمة ترتكب بحقهم، إجرام متواصل وسن المزيد من القوانين العنصرية ضدهم، دعوات لترحيل أهالي منطقة 48 إلى الضفة والقطاع، في عنصرية كريهة ضدهم، اغتيالات، اعتقالات متواصلة حتى لكبار السن والنساء والأطفال منهم، سرقة أراضيهم ومصادرتها في عمليات الاستيطان التي لم ولن تتوقف، تكسير عظامهم، تهجيرهم من وطنهم فرادى وجماعات بشكل مستمر منذ عقود طويلة دون توقف.
مجازر كثيرة ارتكبت بحقهم منها: دير ياسين، كفر قاسم، الطنطورة، مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل وغيرها وغيرها. وراء كل مجزرة، تحاكم إسرائيل (إعلاميا) مرتكبيها بغرامات مالية (قدرها قرش واحد، مثل الحكم على الضابط شيدمي!) أو تتهمه بالجنون! لقد صادق الكنيست قبل عامين على قرار يمنع العفو عن الأسرى الفلسطينيين أو تخفيف الأحكام عنهم. كما يجري اعتقال الكثيرين من أبناء شعبنا وتوقيفهم، مددا طويلة بموجب قانون وحشي من مخلفات الاحتلال البريطاني وهو “القانون الإداري”.
كل هذا غيض من فيض جرائم وموبقات ووحشية الاحتلال والمستوطنين، ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في كل المناطق الفلسطينية المحتلة: عام 48، عام 67… وحتى اللحظة. أبعد كل ذلك، يستغربون قيام البعض من الفلسطينيين بدهس جنود من قوات احتلالهم، أو طعنهم بالسكاكين؟ ماذا ينتظرون من شعبنا…؟ أينتظرون لافتات مرفوعة ترحب باحتلالهم وقمعهم؟ أيريدون رمي قوات احتلالهم ومستوطنيهم بالورود؟ غريب والله أمر هؤلاء الصهاينة؟ ما يتسببونه لنا من معاناة وعذابات لا يحتملها بشر! معاناة وعذابات مستمرة على مدى قرن زمني، وليس في الأفق ما يوحي بتخفيفها ولا نقول انتهائها… عذابات ومعاناة.. لو وقعت على جبل لناء بحملها! ولكن رغم كل ذلك، ترعبهم مقاومتنا. لن يهنأ الاحتلال بالا بأرضنا، سنحولها جحيما دائما تحت أقدامه وله، طالما بقي احتلالهم، فأرضنا عصية على استقرار المستوطنين الغرباء عليها، ومشيهم على أديمها، والفلسطينيون عصيّون على الكسر. شهيدنا الفلسطيني يمضي… يزرع ضوءه في عتمة الليل، مضيئا لآخرين يستكملون طريق الحرية. شهداء خرجوا ويخرجون من دمائهم… يحاولون الوفاء لعهد الأرض، يمتشقون أجسادهم.. يخترقون الأسوار.. يجتازونها رغم الصعاب.. يزرعون التضحية وردا لأجيال فلسطينية أخرى ستأتي. هكذا الفلسطيني ينزرع في قضيته تاريخا.. حاضرا.. ومستقبلا.
ما أصعب الكتابة عمن مضوا شهداء وما زلت تعتبرهم أحياء! لعله العقل يرفض التصديق، فأنت تحس أنهم موجودون، ولعلّهم بألقهم يفرضون حضورهم عليك وعلى الآخرين، ولعلها النهايات التي ترفض تصديقها، ولعله الاختلاط بين ما هو واقع، وما تود أن تراه باعتباره متخيلا… كل ذلك يحتل ركنا كبيرا في الوعي. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار. النصر لشعبنا وأمتنا. الخزي والهزيمة للاحتلال.