أكرم القصاص
«الدول تصبح أقوى حين تصبح أقوى فى عيون الآخرين».. هى مقولة للروائى والمفكر ووزير الثقافة الفرنسى الأسبق، أندريه مارلو، تعبر عن أهمية الصورة، التى تسوقها الدول عن نفسها، وكان مارلو أحد منظرى الديجولية فى فرنسا، يشير إلى أهمية القوة الناعمة الدبلوماسية والثقافية.
وكان هذا فى الستينيات من القرن العشرين، فى قمة الحرب الباردة.. وبالفعل فقد احتلت فرنسا مكانتها بين دول العالم بما قدمته من قيم الثورة الفرنسية والأفكار، التى بنت عصر التنوير والنهضة.. لكن هذه الصورة تراجعت كثيرا، فى ظل تحولات فى أدوات الدعاية.. حيث لايكفى أن تكون الدولة متقدمة، أو قوية، بل يفترض أن يراها العالم كذلك، حتى ولو على عكس الحقيقة.
وهو ما يعكسه الصراع والاتهامات فى عالم الدعاية بين أمريكا وروسيا، وانتقل إلى بريطانيا، سواء كانت الاتهامات نوع من المبالغة، أو أنها حقيقية، فهى تطرح أهمية حرب الصور والدعايات والقوى الناعمة.. ولا تكتفى الدول الكبرى بالتقدم الاقتصادى، لكنها تسعى لتسويق صورتها كما تريد لها أن تكون.. وهو أمر عرفته روسيا بعد أن اكتشفت، كيف سقط الاتحاد السوفيتى ليس بالسلاح، لكن من خلال صور وأحلام زرعتها أمريكا خلف الستار الحديدى.
وبقدر ما تمثل الاتهامات الأمريكية لأطراف روسية بالتدخل فى الانتخابات الرئاسية محاولة للدفاع فهى تقلل من صورة أمريكا الإمبراطورية، التى لم تكن تخشى الآخرين، واليوم تسعى لتقييد مؤسسات روسية إعلامية من خلال سن قوانين لمحاصرة روسيا اليوم وسبوتنيك أو تطلب من جهات حكومية أمريكية إزالة برامج شركة كاسبرسكى الروسية خوفا من الاختراقات.. وهو نفس ما يحدث مع بريطانيا، حيث تبدو مهتزة أمام تدخلات روسية من دون القدرة على تقديم دليل، يجعلها محل سخرية.
ولا يبتعد العملاق الصينى عن هذا الصراع، وبالرغم من كل النجاح، الذى حققته الصين فى المنافسة التجارية، ومع تفوقها الاقتصادى ومنافسة الدول الرأسمالية، بنفس قوانين التجارة العالمية، أرادت الصين أن تكسب أرضا فى عالم الصور وتسويق النموذج للعالم، واعترف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بنجاح الصين فى المواجهة التجارية، وقال لنظيره الصينى أثناء زيارته لآسيا: «لا نلومكم على نجاحكم واضطر لعقد صفقات ضخمة منها صفقة للتنقيب عن النفط فى آلاسكا، بـ43 مليار دولار».
النموذج الصينى، بالرغم من نجاحه بقوانين الرأسمالية العالمية، فما تزال الصين تتمسك بأيديولوجية شيوعية تقوم على أفكار ماوتسى تونج، بل إن الصين نجحت فى الحفاظ على بنيتها السياسية والاقتصادية ونجت من انهيارات المعسكر الاشتراكى، وقدمت نموذجا يجمع أشد المتناقضات.
بالفعل عام 2002، ذكر تقرير الحزب الشيوعى الصينى «فى عالمنا تشتبك الثقافة مع الاقتصاد والسياسة، مما يبرهن على أنها تحتل مكانة ودورًا أكثر أهمية فى السباق من أجل نفوذ وطنى شامل». وقال رئيس الدولة والحزب هو جنتياو 2006: إن «تزايد الدور الدولى لبلادنا وتأثيرها يفترض أن يتم التعبير عنه بقوة صلبة تتجسد فى المجال الاقتصادى والتكنولوجى والأمنى، وقوة ناعمة تمثلها الثقافة».. ربما لهذا كانت الصين حريصة على إصدار مطبوعات بكل اللغات، فضلا عن انتشار المستثمرين والشباب الصينيين فى كل دول العالم تقريبا، يحملون صورة الصين الناهضة، والمستعدة للعمل تحت أى ظرف.. ولم تنجح الدعايات الأمريكية كثيرا فى التقليل من صورة النموذج الصينى.
وفى الوقت الذى تتوسع الصين فى العالم وتلقى استثماراتها فى كل مكان، تتراجع صورة أمريكا أمام التدخل الروسى.. ومثلما كان اعتراف منظرى اليسار والمعسكر السوفييتى بالهزيمة أمام الغرب بفضل قوة الصورة بعد سقوط سور برلين عام 1989 يبدو الخوف الأمريكى والبريطانى عكسيا لتراجع النموذج الدعائى الأمريكى مع صعود روسى أو صينى.
كل هذا الصراع على النفوذ والثروات والفرص والمصالح، يؤكد أن الحديث عن الصراعات الإعلامية والتدخلات المعلوماتية والتضليل ليست من نسج الخيال، لكنها واقع يفرضه تطور عالم عصر المعلومات. لحماية مصالح فى واقع أكثر تعقيدًا.