صفقة القرن الأميركية في سباق بين هوكشتاين الديموقراطي وكوشنر الجمهوري

1

 المصدر: النهار العربي

راغدة درغام

راغدة درغام

هوكشتاين يعقد مؤتمراً صحافياً في مطار بيروت. (أ ف ب)

تسعى إدارة الرئيس جو بايدن وراء حصادٍ استراتيجي نوعي تحمله إلى الحملة الانتخابية الرئاسية، وقد وجدت في المبعوث الرئاسي للطاقة آموس هوكشتاين الرديف الديموقراطي للمبعوث الرئاسي الجمهوري جاريد كوشنر، الذي أنجز للرئيس الأسبق دونالد ترامب ما وُصِف بصفقة القرن المعروفة بالاتفاقيات الإبراهيمية بين دولٍ عربية وإسرائيل. 

 حملة ترامب الانتخابية تتمنى اللانجاح لمساعي هوكشتاين، ليس لأنّها تعارض ترسيم الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل، بعدما كان أنجز اتفاقاً تاريخياً بترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وإنما لأنّها تدرك الأهمية المميزة لمثل هذا الاختراق اقليمياً، وانعكاساتها على الانتخابات الأميركية. فما نتحدث عنه ليس مجرّد تسوية أمتار وتبادل أراضٍ، وإنما نتحدث عن إنهاء النزاع بين لبنان وإسرائيل، باستقلالية المسار اللبناني عن المسار السوري. كانت دمشق فرضت على لبنان ما أسمته لعقود بـ”تلازم المسارين”، كي تمنع لبنان من إنهاء النزاع مع إسرائيل قبل أن تُنهي نزاعها المعقّد معها، وكي يبقى لبنان ورقة تفاوض سورية. اليوم، انقلبت المعادلة لجهة “مَن أولاً”، لأنّ الحكومة السورية باتت بلا نفوذ اقليمي تسعى بالكاد أن تسيطر على أقاليمها، ولأنّ مهندس العلاقات الإقليمية والدولية ليس سوريا وإنما السعودية التي تسعى إدارة بايدن أن تخطب ودّها في انعطافة صاعقة، ولأنّ واشنطن ترى في الرياض الطريق الأفضل لها إلى طهران. الرجلان ذكيّان، جاريد وآموس، وهما صديقان، حسبما نقل متحدّث إلى هوكشتاين عنه. كلاهما أكبر من مبعوث رئاسي في نهاية المطاف، لأنّ كلاً منهما قطب من أقطاب مجلس الأمن القومي والحلقة الأقرب إلى الرئيس. هوكشتاين وكوشنر يتسابقان، بشكل أو آخر، على إثبات الجدارة والنفوذ والقدرة على التنفيذ أمام ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لأنّهما يدركان أنّ “البونانزا”، أو الجائزة الكبرى، هي في تحقيق السلام والتطبيع بين السعودية وإسرائيل. يدركان أيضاً أنّ السقف الذي حدّدته السعودية ليس سهل التحقيق، بسبب العناد والتعنّت الإسرائيليين ضدّ الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية. 

 للمرّة الأولى، قد يتسابق الجمهوريون والديموقراطيون أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، ليس لإرضاء إسرائيل وإغداقها بالهدايا كطفل مدلل. هذا لا يعني أنّ العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل انتهت، وإنما يعني أنّ ما تتطلّبه السياسات العقلانية في أعقاب الحرب الأوكرانية وفي ظلّ الانقسامات الإسرائيلية، قد أجبرا الديموقراطيين والجمهوريين على التفكير خارج الصندوق. فالشرق الأوسط اليوم ليس كما كان خاضعاً للأولويات الإسرائيلية لدى واشنطن. ذلك أنّ واشنطن لها حسابات اقتصادية وسياسية مختلفة عن حساباتها الاستراتيجية السابقة. إنّه عهد جديد من الجيو-سياسية في الشرق الأوسط في أذهان صنّاع القرار من الحزبين الحاكمين في أميركا. قد تبدو زيارة آموس هوكشتاين إلى لبنان ثانوية في إطار الانشغال الأميركي بروسيا وعولمة حلف الناتو والصين والتكتلات الجديدة. واقع الأمر أنّ استثماره في ترسيم الحدود البرّية في أعقاب نجاحه في ترسيم الحدود البحرية، له مردود استراتيجي مهمّ للولايات المتحدة، وليس فقط منافع في مجال استخراج النفط والغاز الضروري لأوروبا في زمن الشح الذي فرضته الحرب الأوكرانية. الرسالة الأساسية التي حملها هوكشتاين إلى الذين اجتمع معهم في لبنان من مسؤولين وشخصيات غير حكومية، هو أنّ إدارة بايدن يهمّها الاستقرار والهدوء الطويل الأمد، وهي مستعدة للعمل على إصلاح الأخطاء في الخط الأزرق الذي يفصل الحدود اللبنانية- الإسرائيلية. ويُعتبر خط انسحاب وليس خط حدود. أتى بجوٍّ أميركي خلاصته الالتحاق بمساعي حلّ النزاعات ومعالجة الخلافات بشراكة مع دول المنطقة، وليس فرضاً عليها كما كان التقليد سابقاً. الرسالة الأساسية كانت أنّ إدارة بايدن تريد أن تترك بصمة حل النزاعات وتحقيق إنجازات كانت مستعصية وبدت مستحيلة في الماضي القريب. وبحسب مستشار أحد أهم الأقطاب اللبنانيين “أتوا بطرحٍ مختلف” عن السابق بمؤشرات على إجراءات لنقلة نوعية تفيد “أنّ الطرف الإسرائيلي مستعد للانسحاب من كل الأراضي اللبنانية المحتلة”. هذه مرحلة تحضير الملفات قبل طرحها رسمياً. المفاوضات على الحدود البرّية ليست أصعب من المفاوضات على الحدود البحرية، لكنها لن تستغرق 12 عاماً، لأنّ للحدود البحرية ملاحق نفط وغاز، بينما الحدود البرّية لا مصالح اقتصادية أو جيو-سياسية حيوية فيها. النقاط العالقة في شأن الخط الأزرق عددها 6، علماً أنّ المفاوضات الثلاثية بين لبنان وإسرائيل في حضور الأمم المتحدة، أسفرت عن موافقة الطرفين على حلّ 7 نقاط في غضون سنة. باستثناء الاختلاف على B1 في رأس الناقورة في مربع حجمه 500 متر بـ 500 متر، ومزارع شبعا التي تقع ضمن ولاية القوة الدولية لفك الاشتباك LINDOF بين سوريا وإسرائيل، إنّ نقاط الاختلاف الأخرى “طفيفة” وفق تعبير مسؤول لبناني معني مباشرة بالمفاوضات، إذ أنّ المسألة يمكن حلّها بـ”تبادل الأراضي”. هوكشتاين اكتسب سمعة المفاوض الذي يُحسن فن المقايضة والقادر على هندسة الصفقات. حفر لنفسه اسماً عبر ترسيم الحدود البحرية اللبنانية- الإسرائيلية، وهو يريد توسيع البيكار ليصبح اسمه ملتصقاً بترسيم الحدود البرّية بين لبنان وإسرائِيل- وربما لاحقاً ترسيم الحدود بين سوريا وإسرائيل. هذا الطموح ليس محصوراً في المربع الثلاثي اللبناني- السوري- الإسرائيلي، وإنما أهميته الأبعد تكمن في حل نزاع أساسي يساعد جذرياً في اقتراب السعودية من التطبيع مع إسرائيل. فهناك تكمن صفقة القرن الديموقراطية. ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل ألغى عملياً منطق المقاومة، وبالتالي استطاع تحييد “حزب الله” بل كبّل يديه بعدما وافق على الترسيم بمباركة إيرانية. هناك من يقول انّ هذا هو الإنجاز الأهم لإدارة بايدن في منطقة الشرق الأوسط، وانّ استكمال الإنجاز برّاً سيشكّل ذخيرة انتخابية عنوانها السلام بين إسرائيل وجارها اللبناني بشق الدولة والتحييد neutralize بشق “حزب الله” ومنطق المقاومة برضى إيران. الجمهورية الإسلامية الإيرانية تود المساهمة في الحملة الانتخابية الديموقراطية، لأنّها تخشى عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حاملاً سيف العقوبات وراية الحزم والصرامة مع رجال طهران- فانعدام الثقة بين الطرفين متبادل. إدارة ترامب لم تثق بوعود النظام الإيراني ولن تتساهل معه إذا عادت، بل قد تستكمل سياسة الضغوط القصوى لإجبار النظام على التخلّي عن عقائديته التي تتنافى مع مؤشرات الليونة والتأقلم التي تبديها الحكومة الإيرانية أخيراً. القاسم المشترك بين منطق الجمهوريين والديموقراطيين هو الاعتبار الكبير للدور السعودي الإقليمي والدولي، كما يصيغه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. الاختلاف يكمن في كيفية قراءة هذا الدور على الصعيد الإيراني ليس من زاوية الاتفاق السعودي- الإيراني برعاية الصين، لأنّ كلاهما يقرّ بها ولا يتدخّل فيها، وإنما لجهة الدور السعودي في إصلاح العلاقة الأميركية- الإيرانية. معسكر ترامب ينوي الاستمرار في الانحياز ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية طالما أنّ “الحرس الثوري” هو القائم على رسم وتنفيذ سياساتها الخارجية، الإقليمية والدولية، بتدخّله المباشر وبصقله ميليشيات وقوات غير نظامية تابعة له وتخضع لأوامره تعمل داخل دول كلبنان، بما ينفي مبدأ السيادة. هذا المعسكر لا يسعى ولا يريد تطبيع العلاقات الأميركية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لا يريد إعادة إحياء الاتفاق النووي معها، ولا يتقبّل أداءها على الصعيد الداخلي بقمع الانتفاضة ولا على الصعيد الخارجي بتصدير وفرض نموذج ثورته وسلطويته. معسكر بايدن يرى في العلاقة السعودية- الإيرانية الجديدة أفقاً للانفتاح على إحياء الاتفاق النووي بجهود سعودية- وهنا المفارقة، لأنّ الديموقراطيين في عهد باراك أوباما وبايدن كانوا اتخذوا قرار استبعاد السعودية وكامل الدول العربية عن المفاوضات النووية مع إيران، وكانوا رضخوا لشرط طهران باستبعاد سلوكها الإقليمي عن المفاوضات. اليوم، يريد هذا المعسكر إبلاغ الطرفين السعودي والإيراني أنّ إدارة بايدن انعطفت عن انعطافة إدارة أوباما بإصلاح جذري لخطأ الانفصال عن الشراكة الاستراتيجية مع دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية، بتزامن مع الانبطاح في عشق الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هذا الإصلاح لا يقتصر على إعادة عقارب العلاقة الاستراتيجية مع الدول العربية الخليجية إلى طبيعتها التحالفية، وإنما يشمل حاجة معسكر بايدن إلى السعودية- إضافة إلى قطر وعمان والإمارات- لإعادة إقلاع العلاقة مع إيران، والتي توقفت مع توقف المفاوضات النووية. إيران تفهم ذلك وهي عازمة على مساعدة إدارة بايدن بكل ما تستطيع، لأنّ مصلحتها تقتضي الاستثمار ببقاء هذه الإدارة في السلطة واستبعاد عودة ترامب إلى البيت الأبيض. لذلك، إنّ كلام الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في الآونة الأخيرة عن “سيادة” الدولة اللبنانية وعدم التدخّل في قرار أهالي قرية شمال الغجر، إنما يعكس نبرة إيرانية تتماشى مع ديبلوماسية الليونة والانفتاح والمساعدة في إيجاد حلول لمشاكل المنطقة- الديبلوماسبة الناعمة الجديدة التي يمثلها رئيس الجمهورية ووزير خارجيته، ويسكت عليها مرشد الجمهورية وحرسه الثوري. “حزب الله” أبدى حسن نيّة في موضوع ترسيم الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل، والرسالة الإيرانية إلى إدارة بايدن هي انّ طهران جاهزة لتسهيل أمور الحدود. بغض النظر إن كانت هذه هدية إلى الحزب الديموقراطي في مساعيه الانتخابية تأتي في إطار أداء الديبلوماسية الإيرانية الإيجابي في اليمن ونحو البحرين، لا يمكن للحزب الجمهوري الاحتجاج على نتائجها إذا انتهت حقاً إلى إنهاء النزاع بين لبنان وإسرائيل. رئاسة الإمارات لمجلس الأمن الدولي للشهر الجاري ساهمت في قرار التمديد لقوات “اليونيفيل” الدولية في جنوب لبنان بأبعد من تسهيل اعتماد القرار، وذلك عبر تأكيد سلطة الدولة اللبنانية في معالجة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية سيؤدّي- إذا وافقت إسرائيل عليه- إلى صفحة جديدة في إنهاء النزاع العربي- الإسرائيلي، وإلى توسيع بيكار التطبيع مع إسرائيل. الإمارات رائدة في عملية عودة سوريا إلى الحضن العربي بموازاة مع خطوتها السبّاقة نحو التطبيع مع إسرائيل، بإنجاح كبير للاتفاقيات الإبراهيمية التي صاغها جاريد كوشنر في عهد إدارة ترامب. فلعلّ تكون سوريا على طريق إنهاء النزاع مع إسرائيل بعد معالجة خلّاقة لمرتفعات الجولان الواقعَة تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتي ضمّتها اسرائيل رغم أنف القرارات الدولية. في زمن الطائرات المسيّرة والتكنولوجيا الحربية الجديدة، لم تعد مواقع مثل مرتفعات الجولان أو مزارع شبعا ذات الأهمية الاستراتيجية التي كانت عليه في الماضي. سوريا كانت على وشك توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل قبل عقدين، تعرقلت بسبب بحيرة طبريا. أهمية تلك البحيرة زالت مع تغيير المناخ، ولعلّ السلام كان وقع لو كان صنّاع القرار يدرون بآثار المناخ وبتكنولوجيا المسيّرات وبقواعد الحروب الجديدة. هناك فرصة لنافذة جديدة على تفكير جديد. بغض النظر إن أتى الحزب الديموقراطي أو الحزب الجمهوري بجهود إنهاء النزاعات في الشرق الأوسط، يبقى اللغز الإيراني في الصدارة، وتبقى العلاقة التهادنية تاريخياً بين إيران وإسرائيل موضوع تساؤل: ماذا لو؟ ماذا لو انتقلت هذه التهادنية السرّية إلى علنية الصفقة على نسق ما يصبو إليه الديموقراطيون والجمهوريون تحت عنوان صفقة القرن؟ مجرّد سؤال. مجرّد استفسار. مجرّد فكرة.

التعليقات معطلة.