د.احمد مصطفى
يجوب جارد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره، المنطقة هذا الأسبوع لعرض خطته للسلام في الشرق الأوسط المعروفة إعلاميا باسم “صفقة القرن” والتي يعكف على إعدادها منذ تولي حماه الرئاسة قبل عامين. واستهل كوشنر جولته بمقابلة تلفزيونية أوضح فيها الخطوط العريضة للصفقة وكيف أنها تستهدف حلا نهائيا للصراع الرئيسي في المنطقة. وحسب ما قاله فإن الخطة الأميركية تفصيلية جدا (بما لا يدع مجالا لأي شيء بعدها) وتتعلق بما سمي “الحدود” ومنح الناس “حرية الاختيار” وتغيير القيادة الفلسطينية. لكن، الأهم حسب ما أعلن قبل جولة كوشنر أنه لن يطلع مضيفيه في المنطقة على التفاصيل السياسية والقانونية لصفقة القرن، وإنما سيبحث “الجانب الاقتصادي من الصفقة”.
ربما لهذا السبب تشمل جولة المستشار الأميركي دول الخليج ومصر ولكنها لا تتضمن الأردن، مع أن الأردن ـ مع مصر ـ هو الدولة الوحيدة المعنية أكثر من غيرها في المنطقة بمسألة “الحدود” التي ذكر كوشنر في مقابلته أن خطته تحددها نهائيا. كما أنها معنية أكثر من غيرها بمسألة “حرية الخيار” للناس (وبالطبع المقصود هنا هم الفلسطينيون). ولا نريد أن نذهب بعيدا في الاستنتاج وتفسير استبعاد الأردن من جولة عراب “صفقة القرن” على أنه رفض أردني لها، رغم أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أعلن من قبل أنه لا يعرف شيئا عن الصفقة ولا تفاصيلها، وأن الأميركيين لم يطلعوه على ملامحها حتى. وإذا كان هدف الجولة هو بحث “تمويل” الصفقة فإن مصر ليست في وضع “الممول”، حتى لو كان لها علاقة بالجانب الاقتصادي الذي يخص قطاع غزة من وعود باستثمارات والقضاء على الفقر فيها.
الأميركيون أكدوا، على لسان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن الصفقة لن تعلن قبل الانتخابات الإسرائيلية في 9 أبريل المقبل. وهكذا تبدو جولة جارد كوشنر والحديث عن الصفقة جزءا من الحملة الانتخابية لنتنياهو الذي يواجه تحديا من تحالف قوى معارضة، وكذلك اتهامات بالفساد قد تدخله في تحقيقات جنائية لن ينفعه أمامها تحالفه مع اليمين المتطرف العنصري. الأمر الثاني والأهم ـ بغض النظر عن الصفقة وتفاصيلها غير المعلنة حتى الآن ـ هو التأكيد الأميركي والإسرائيلي على أن مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي طرحتها السعودية وتبناها العرب ورفضتها إسرائيل لم تعد مطروحة، ذلك “أن الأوضاع تغيرت منذ ذلك الحين، ويتعين التعامل مع الواقع الجديد” حسب رأي الأميركيين (وهو رأي الإسرائيليين بالطبع الذين غيروا تلك الأوضاع ويفرضون واقعا جديدا على الأرض).
المفترض في أي صفقة أن لها طرفين على الأقل، أو عدة أطراف، تكلفهم ويستفيدون منها ـ حتى لو كان هناك من يكسب أكثر من أي صفقة فإن الطرف الآخر، أو بقية الأطراف، يكون لها مكاسب ولو على المدى البعيد. لكن الواضح حتى الآن، وقبل أن تعلن تفاصيل الصفقة، أن هناك تاجرا واحدا فقط فيها ـ هو الأميركي. ورغم أن الإسرائيلي هو المستفيد الرئيسي، والوحيد تقريبا، من دعم ومساندة أميركا إلا أن “صفقة القرن” تلك هي مشروع أميركي خالص وربما حتى يمكن القول إنها “صفقة ترامبية” تماما رغم مشاركة دبلوماسيين وفنيين من الإدارة الأميركية في إعدادها. فكل المكاسب تعود على “أميركا أولا” وعلى الرئيس دونالد ترامب أكثر. وهكذا تبدو الصفقة بلا تجار، وإنما فرض لعقد إذعان نهائي لا يحتمل الاستئناف ولا النقض وفي تفاصيله القانونية الصغيرة، ما يجعل أي طرف آخر فيه غير الأميركي لا حق له ولا مساحة لمكسب ولو على المدى البعيد.
أول المكاسب وأهمها في رأيي أن تصبح تلك الصفقة، أيا كانت تفاصيلها (والأكيد فيها أن ترامب استبقها باعتماد القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وبالتالي خرجت القدس من أي تسوية)، السند لأي تسوية للصراع مع إسرائيل فيما بعد، بغض النظر عن الاتفاق عليها أو لا في فترة حكم ترامب. وهكذا تكون المبادرة العربية، التي اعتمدت أساسا على الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها مقابل حل الدولتين وانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967، انتهت تماما ولم تعد أساسا لأي تسوية. ويرى الأميركيون أن الأوضاع تغيرت بحيث لم يعد الاعتراف العربي بإسرائيل والتطبيع معها “كارتا للعب” إذ إن تلك تكاد تكون حقيقة الآن بلا أي مقابل أو تنازل أو ثمن. أما الأراضي، فقد أنهى ترامب موضوع القدس وتوسعت إسرائيل في الاستيطان في الضفة الغربية وبالتالي سقطت تلك الورقة أيضا. وطبعا هناك مكسب “الإنجاز التاريخي” لإدارة ترامب بوضع أسس “جديدة” لتسوية الصراع الرئيسي في “الشرق الأوسط”.
وأخيرا، هناك الفوائد المباشرة من “تدبير” تمويل الصفقة عربيا ودوليا (أي ببساطة سمسرة العراب لها) وربما حتى من الموسرين الفلسطينيين في الشتات. وقد يتصور البعض أن ذلك أمر يسير أمام التحديات الكبرى مثل الصراع عبر عقود وإعادة رسم منطقة بالكامل و.. و.. إلخ. إنما من يعرف رجال الأعمال جيدا يدرك أن أي مكسب مادي بسيط لا يقل أهمية بالنسبة لهم عن مكاسب الملايين والمليارات في الصفقات الكبرى. ولتجرب ذلك بنفسك وتراقب عيني أي رجل أعمال إذا التقيته ودفعت أنت ثمن القهوة! ومن المؤسف أن تصبح دعوانا “ليت لدينا نحن العرب تجارا مثل ترامب وكوشنر”.